لم أعد طفلاً
قصة: د. طارق البكري
مرحبا يا أصدقائي، سأخبركم عن قصتي مع أبي.. فهو يعاملني كطفل صغير.. أصبح عمري عشر سنين ويقول إني صغير... وعندما أرغب في الذهاب مع أصدقائي يوم عطلة يقول: يجب أن يكون معكم شخص كبير.. ويتبرع بنفسه ليذهب معنا الى الحديقة أو إلى البحر...
بعض أصدقائي لا يعجبهم الأمر .. لكني لا أخبر أبي بذلك.
يظل أبي يراقبنا طوال الوقت مثل حارس أمين.. وأراه يهتم بأصدقائي كما يهتم بي.. وهذا يسعدني.. فلو أحضر لي شيئاً مثل أكياس بطاطا (شبس) أو حلوى أو بسكويت يحضر لكل الأصدقاء الذين معي مهما كان عددهم...
اعتدت على هذه الحال ولم أعترض.. بات الأمر طبيعياً بالنسبة لي، وكان آباء أصدقائي فرحين بذلك ويطمئنون بأننا لن نتعرض لسوء...
ومرة أخذنا أبي الى حديقة عامة كبيرة.. وفيما نلعب سمعنا صياح صديقنا علي الذي كان من أشد المعترضين على ذهاب أبي معنا لأننا باعتقادهم لا نأخذ حريتنا باللعب..
وفي يوم ارتفع صوت علي بصرخة مدوية..
علي صديقي وقع من أعلى لعبة كن يتأرجح بها, فسقط على يده وانكسرت عظامها.. فصار يصرخ من الألم...
بادر أبي إلى الاتصال فوراً بالإسعاف وطلب من علي ألا يحرِّك يده أبداً.. تمدد علي على الأرض وهو يبكي من الألم.. وجلسنا إلى جانبه نحاول أن نهدئه ونواسيه.. فتجمع الناس حوالينا.. ولما وصلت سيارة الإسعاف قام المسعفون بوضعه داخل السيارة لنقله إلى المستشفى فوراً، وركبنا نحن في سيارة أبي نسابق السيارات خلف سيارة الإسعاف وأبواق سيارتنا تشق الطريق، وظن الناس أن أبي هو والد علي من شدة ما كان قلقاً ومتوتراً ويسابق الريح من أجله... حتى أنه نسي أن يتصل بأسرة علي.. وأنا وأصدقائي كنا خائفين ولا نعرف كيف نتصرف..
مضى وقت لم نستطع فيه أن نكلم أبي.. حتى خرج عليّ من غرفة العمليات ويده كلها محشورة في قالب طيني ناصع البياض.. والطبيب يقول لا خطر عليه ويمكنه الخروج من المستشفى.. فشكر أبي الطبيب وأنهى معاملات المستشفى.. وسجل الأمر على أنه حادث طبيعي..
كان علي ممتناً لأبي وآسفاً لأنه لم يكن يحب بقاء والدي معنا في رحلاتنا ونزهاتنا..
شكر علي أبي على ما فعله فجاوبه: المهم سلامتك.. وأوصلنا علياً إلى منزله بسيارة أبي وفوجئ جميع أفراد أسرته بما حدث.. وشكروا والدي كثيراً... وكنت فخوراً جداً... وظلَّ كلُّ أصدقائي يتحدثون عن الحادث لعدة أيام حتى وصل الخبر إلى إدارة المدرسة فقررت تكريم أبي على موقفه النبيل...
فخورٌ أنا بأبي صغيراً وكبيراً.. وأولادي هم أيضاً فخورون بجدهم..
لكنه ما زال يظن أني صغير رغم أني تخرجت في الجامعة واشتغلت.. وتزوجت وأصبحت أباً لأولاد وبنات..
بالمناسبة... أنا اليوم أخرج معهم ومع أصحابهم الصغار في أيام العطل..
مع رأيكم يا أصدقائي بقصتي مع أبي؟
مع السلامة..
مناسبة سعيدة
قصة: د. طارق البكري
عاد أبي الى البيت مساء حاملاً علبة كبيرة ملفوفة بورق ملون بديع يلمع بقلوب حمراء وورود وأزهار..
أسرعت أنا وإخوتي نهتف بفرح رافعين أيدينا، يسبق أحدنا الآخر لكي يكون الفائز بالصندوق الكبير..
رفع أبي الصندوق فوق رأسه وألصق جسده بالحائط..
أمي كانت في تجلس في غرفتها.. قفزت على صوت صياحنا وضحكنا..
انعطف أبي نحو أمي وهزّ الهديّة التي في يده برفق شديد، مشيراً بها نحو أمي...
أصابتنا خيبة.. فالصندوق هدية لأمي.. ولا يخصّ أحداً منا نحن الصغار...
فتحت أمي الهدية.. كان بها قلب كبير من الحلوى رسم عليه بيت من الفاكهة الممزوجة بالعسل..
كانت المناسبة سعيدة.. تخص أبي وأمي.. فقد مضى على زواجهما عشر سنين..
كنت أنا أكبر الأبناء.. عمري يقترب من تسع سنين.. ولدي أختوأخ.. أختي عمرها سبع سنين ونصف السنة وأخي الصغير خمس سنين..
وضعت أمي قالب الحلوى اللذيذ على الطاولة الكبيرة.. أخرج أبي من جيب سترته شمعة بالرقم (10)، أشعل الشمعة، أطفأ النور.. وغنينا جميعاً.. لأمي وأبي..
كانت المرة الأولى التي يحتفل بها أبي معنا بالمناسبة.. قال إنها مناسبة مختلفة بسبب الرقم (10)..
سجلت التاريخ في مفكرتي.. وصرت أبادر للاحتفال بالمناسبة عاماً بعد عام.. أمي لم تعد تحسب الأرقام والأعوام.. لكنها على الدوام تظهر فرحتها بالرقم الذي يكبر كلما كبرنا وكبرت.. ذاكرة أبي باتت ضعيفة جداً.. حتى أنه لا يتذكر أسماء أحفاده.. لكنه لا ينسى يوم المناسبة..
فهي في قلبه مناسبة سعيدة تستحق قلباً كبيراً من الحلوى وبيتا من الفاكهة الممزوجة بالعسل..
إكرام ابنة قريةمقدسية قديمة محتلة… جدها مسعود لم ينزح من قريته قبل سنوات طويلة رغم أنهمطردوه من بيته وأرضه.. فضل أن يبقى يفلح ترابه ويزرعه.. وإن كان يخدم من اغتصب بيتهوبستانه فقد كان يؤمن بأنه لا يخدمه هو، بل يخدم الأرض التي يحبها.. ويعرف كل حبةرمل فيها. لم يكن جد إكرام يفهم بالسياسة ولا بالعسكر.. كان متدينا بسيطاً،صحيح أنّه كان يصلي ويصوم ويحفظ آيات كثيرة من القرآن الكريم.. لكنه لم يكن يفهمإلا بالزرع والحصاد.. وبالرغم من معيشته الصعبة.. وما ذاقه من المحتلين من آلاموجراح.. رضي العيش في خدمة المحتل ولو دون بيت.. فهو يفضل النوم في ظل شجرة منأشجاره التي زرعها بيديه من أن يرحل ويعيش في قصر منالقصور..
****
إكرام الصغيرة لم تعرف جدها الا بسماع قصص عنه.. استشهد قبل ولادتها بأعوام.. لم يقتل في معركة ضد المحتل، ولا في تظاهرة أوحتى مجرد اعتراض... قتله ابن مغتصب أرضه التي ورثها عن أجداده.. قتله الصبيبعد أن أهداه أبوه بندقية جديدة بمناسبة بلوغه العاشرة من عمره.. أراد الصبي أنيجرب بندقيته الجديدة.. وبدلاً من أن يجربها على عصفور أو فأر أو حتى صرصار؛ صوببندقيته نحو قلب الجد مسعود.. كان مسعود يفلح الأرض ويسقيها عرقه.. رفعمسعود معوله إلى الأعلى ليهوي به نزولاً يشق الأرض.. فاجأته طلقة البندقية فيقلبه مباشرة..
***
تعرف إكرام قبر جدها.. تحمل اليه من وقت لآخرعوداً أخضر تغرسه في تراب القبر.. تقرأ الفاتحة وتدعو له ولنفسها ولأسرتها.. ثمتغادر كما جاءت وعلى كتفها شنطة المدرسة..
***
والد إكرام يحمل جنسيةالمحتل غصباً عنه.. لم يكن أمامه خيار: أما الإذعان أو الرحيل.. جدته (أرملةمسعود) رفضت الأثنين.. حبست نفسها في كوخ متهالك، قررت الموت في قريتها لتدفن قربزوجها الشهيد.. عاشت الأسرة حياة بسيطة جداً، في حي تحيط به مساكن المحتلينكالسوار بالمعصم.. لم تكن إكرام تعرف الكراهية... كانت مثل جدها مولعةبالأرض...
***
في مدرستها طالبات كثيرات يشبهنها تماماً.. لكل واحدةمنها قصص تحكيها... هن يشعرن أنهن أسعد حظاً من نظيراتهن البنات اللاتي بمثلسنهن ويعشن خارج الوطن، أو تحت قصف الاحتلال وإرهابه في ما تبقى من وطن.. كانتهي أيضاً تظن أنها محظوظة لبقائها في أرض الوطن، بل أكثر حظا لأنها قريبة الى قبرجدها وتسكن داخل قريتها التي كانت.. هي تذهب الى المدرسة، وهن قد لا يذهبن،ويعشن ظروفاً قاسية.. هي تعيش في أمان مصطنع.. وهن يعشن في ساحاتالدم... لكنها لم تشعر بالأمن التام، فكل ما هو عربي حذر علىالدوام...
***
تفتحت إكرام على هذا المشهد.. أقصى مكان تذهب اليههو المدرسة في الصباح والعودة الى البيت ظهراً.. تحرص على الذهاب والعودةمسرعة.. تهرول جنب الحائط وتدخل البيت ولا تخرج الا عند الضرورة، وأحياناً تذهبالى جارتها مريم التي تسكن الحي نفسه لتراجع لها دروسها وتشرح لها ما غمض عليها فيدراستها...
***
ومريم في الحقيقة ليست مدرسة.. لم تكن تعمل في مدرسةولم تكن تعمل أبداً.. حاولت مراراً أن تجد عملاً، لكن ماذا تفعل بأطماع أصحابالعمل؟؟ عندما كانت تقول لهم: عيب عيب.. يضحكون ويطردونها قائلين بلكنة عربيةسخيفة: (ها ها.. روح حبيبي روح ... دورلك مكان تاني). لذلك قعدت مريم في البيتتعلم أبناء الحي وبناته.. تعطيهم دروساً خصوصية مقابل أجر زهيد... لكنه يبقى أفضلبمليون مرة من موافقة أصحاب العمل هؤلاء على طلباتهم...
***
فيالمساء.. وقبيل نومها.. تفتح إكرام نافذتها الصغيرة، تتمدد على السرير، ترميببصرها الى السماء تتأمل النجوم المنتشرة مثل حبات لؤلؤ حولالقمر...
***
حي إكرام لا ينعم بالأمن التام مثل سائر الأحياء التيتحيط به... تشكل تلك الأحياء حالة رعب.. لم يكن يمر يوم دون أن يعبث أحدبالحي.. زجاج يطاير.. سيارات تضرب بالحجارة.. بيوت تتعرض للسطو... طفل يشج رأسهبضربة عصا... القمر وحده صديق إكرام... ليس هنالك أصدقاء... أبواهامشغولان على الدوام... جدتها الكبيرة بالسن لا تستطيع الكلام وغالباً ما تكوننائمة.. أبوها وأمها يعملان عند تاجر محتل... يعملان عنده مثل عبدين طائعين،ولا يستطيعان الاعتراض... فالجنسية الوهمية لا تؤمن أية حماية... أذعنا للواقعكيلا يكون مصيرهما مثل جدها المسكين, أو الرحيل..
***
لم تكن إكرامتجد مسلياً غير القمر... تبحث في المساء عن إذاعات عربية ومحطات عربية، لكنهاتخفض الصوت كيلا يسمع أحد من الخارج... تراقب حياةأطفال العرب.. كيف يعيشون وكيف ينعمون... ثم تنظرللقمر.. تحلم بالحياة وللحياة... ثم تغلق عينيها وتنام على حلمجديد..
****
وفي عصر يوم يسبق امتحاناً مدرسياً مهما... ذهبت إكرامالى مريم .. تأخرت إكرام في بيت مريم.. كانت الدروس كثيرة وتحتاج الى شرح... مضىالوقت بسرعة... لم تنتبه إكرام الا بعد مضي وقت طويل... بقيت إكرام في منزل مريمحتى غربت الشمس... ولم تكن تتأخر يوماً .. رجتها مريم أن تبقى عندهاالليلة.. خافت على أبويها.. ستبكي أمها أن لم تعد الى البيت... ستظن أن عصابةخطفتها... وما أكثر مثل هذه العصابات... خافت من أن يخرج أبوها وأمها للبحثعنها فتؤذيهما تلك العصابات...
***
قررت الخروج فوراً والسير قربالحائط على الطرف الثاني حتى تراها مريم لغاية وصولها الى البيت.. الكهرباءمقطوعة عن الحي مثل العادة... قالت لها: خذي هذه الشمعة لتنير لكالطريق... قالت الطفلة: لا أريد شمعة.. من الأفضل أن أمشي في الظلام كيلا يرانيأحد.. أصرت مريم.. خشيت أن تصدمها سيارة في الظلمة.. أن تقع في حفرة.. وما أكثرالحفر في الحي... أخذت الطفلة الشمعة بحذر.. سارت مسرعة نحو الرصيف قربالحائط على الجانب الآخر من الطريق لتتمكن مريم من رؤيتها حتى وصولهاالبيت...
*** كانت إكرام خائفة...
الظلام تشقه شمعة؟ لم تعد مريمترى في الظلام غير نور ضئيل يتحرك قرب الحائط... رأت ضوء سيارة مسرعة... سمعتصوتاً مرعباً.. سمعت صراخ طفلة.. وزعيق إطارات سيارة.. ومنذ ذلك اليوم لميعد أبناء الحي يضيئون شمعاً بليل...
ابتعدي عني .. اذهبي من هنا .. لا أستطيع رؤيتك "
كان يصرخ بأعلى صوته .. لا يريد مشاركة أخته الصغيرة في ألعابه يملك ألعابا كثيرة .. وهي تملك ألعابا مثله .. لكنها تحب اللعب معه ترمي نفسها .. ينظر إليها بغضب .. يدفعها بيديه الأم اعتادت على عراكهما المتواصل .. هو يحب أخته لكنه لا يريدها أن تخرب ألعابه الصغيرة أخيرا قررت الابتعاد عنه .. قالت : لا تحبني ، لن ألعب معك بعد اليوم ..
فرح في أول الأمر .. ثم افتقد مشاغبة أخته الصغيرة .. تمنى لو تعود كما كانت لم يعد يخفي ألعابه .. يغريها بالاقتراب واللعب .. لكنها ترى الغضب في عينيه حزن الصبي .. حزنت البنت .. الأم أيضا حاولت مصالحتهما فما استطاعت لم يتخاصما قبل اليوم .. عراكهما قديم لكنهما لا يتخاصمان ظن أن أخته لا تحبه .. ظنت أنه أيضا لا يحبها خرج ليلعب قرب الدار .. شاهد أخته على الشرفة تحمل عروستها التي تحبها رأته .. حزنت لأنها لا تلعب معه .. أرخت أصابعها .. سقطت العروسة خشي الصبي أن تسحقها إطارات السيارات فتحزن أخته ..
ركض ليعيدها إليها سليمة .. سيارة مسرعة كادت تصدمه .. زعيق مكابحها هز الحي حمل الصبي اللعبة العروسة ، طار بها إلى البيت طار قلب أخته من الفرح .. فرحت بنجاة أخيها لا بنجاة اللعبة عرفت كم يحبها .. عرف كم تحبه .. صارا يلعبان معا بكل الألعاب .. لم تعد تخرب له ألعابه ..
لم يتعاركا بعد ذلك اليوم .. كان يناديها :
"اقتربي .. اقتربي .. لا أتحمل بعادك
سوسو لا ترى بوضوح ، طلب منها أن تضع نظارة الجديدة . قالت البنت الصغيرة سوسو للنظارة الطبية الجديدة : أنت تشوهين منظري الجميل .. لا أريدك .. لا أريدك .. الطبيب قال لسوسو : لاتخلعي النظارة أبدا وخصوصا عند القراءة . سوسو لا ترى جيدا ما يكتبه المدرس علىاللوح الأسود ، لكنها لا تريد استخدام النظارة أمام صديقاتها .. في الفصل تلميذات كثيرات يضعن النظارة 00سوسو لا تحبها ، تظن أنها تجعلها قبيحة . عندما وصلتسوسو إلى المدرسة خلعت النظارة ، في الفصل لم تكن ترى بوضوح 00صارت تنظر إلى كراسة التلميذة التي أمامها .. التلميذة نقلت كلمات خطأ .. سوسو نقلت الكلماتكما هي .. اكتشف المدرس فيما بعد أن الأخطاء واحدة .. التلميذة اعتذرت من المدرس لأنها نقلت الدرس بشكل خاطئ ولم تنتبه للكلمات الصحيحة على اللوح .. سوسو لم تستطع إخفاء سرها .. طلبت من المدرس أن تتكلم معه خارج الفصل .. قالت له إنها لاترى بوضوح ولا تحب استخدام النظارة الطبية .. سألها : من أخبرك أنها تشوه وجهك الجميل يا ابنتي ؟! أخرجت سوسو النظارة من حقيبتها .. بدت النظارة جميلة ملونة شكلها عصري تكاد تختفي من رقتها وخفتها .. قال المدرس : النظارة متناسقة مع وجهك .. تبدين طبيبة أو مهندسة .. فرحة سوسو كانت كبيرة جدا .. عادت لفصلها فخورةبنظارتها .. الطالبات سألن سوسو عن المكان الذي اشترت منه النظارة ؟لم تعد سوسو تنقل من كراسة صديقتها .. أصبحت ترى بوضوح ، وعندما تخطئ زميلتها بالكتابة تقول لها ضاحكة : أنت بحاجة إلى نظارة طبية جميلة مثل نظارتي .. لكن صديقتها لم تكن بحاجة إلى نظارة بل كانت لا تنتبه أحيانا إلى ما يكتب على اللوح ، عندما تنبهها سوسو تنظر جيدا وتصحح أخطاءها.