يوم عرفة دروس وعبر
الحمد لله المتفرد بالكمال والجلال، العظيم في سلطانه، الغني عن خلقه، يغفر ويرحم من تاب إليه وأناب، سبحانه وبحمده الكريم الوهاب، والصلاة والسلام على خير خلقه المصطفى محمد بن عبد الله الصادق الأمين الذي قام لله حتى تفطرت قدماه، ورفع يديه داعياً متضرعاً حتى سقط ردائه من عليه صلى الله عليه وعلى آله الأطهار ما تعاقب الليل والنهار صلاة وسلاماً دائمين متلازمين ما دامت الأرض والسماوات، أما بعد:
إن ليوم عرفة شأن عظيم في نفوس الحجيج من المؤمنين وهم واقفين على صعيد عرفات، رافعين أكف الضراعة والابتهال إلى ربهم الكريم الوهاب، طمعاً في مغفرته - سبحانه وتعالى -، قد أتوه شعثاً غبراً من كل حدب وصوب، ومن كل فج عميق، حتى إن الرب - سبحانه وتعالى - يباهي بهم الملائكة كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: ((إن الله - عز وجل - يباهي ملائكته عشية عرفة بأهل عرفة فيقول: انظروا إلى عبادي آتوني شعثاً غبراً))1، قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو الله - تبارك وتعالى -، وبيتهل ويتضرع إليه رافعاً يديه إلى صدره كاستطعام المسكين، وأخبرهم أن: ((خير الدعاء يوم عرفة))2"3.
وكان - عليه الصلاة والسلام - يحث على الدعاء في هذا اليوم المبارك كما في حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
((خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير))4، قال ابن عبد البر - رحمه الله -: "وفيه من الفقه أن دعاء يوم
عرفة أفضل من غيره، وفي ذلك دليل على فضل يوم
عرفة على غيره،... وفي الحديث أيضاً دليل على أن دعاء يوم
عرفة مجاب كله في الأغلب"
5؛ وذكر الحافظ ابن رجب - رحمه الله -: "أن الفضيل رأى تسبيح الناس وبكاءهم عشية
عرفة فقال: أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجل فسألوه دانقاً أكان يردهم؟ فقالوا: لا، فقـال: والله للمغفرة عند الله أهون من إجابة رجل لهم بدانق"
6.
وقال عبد الله بن المبارك - رحمه الله -: "جئت على سفيان عشية
عرفة وهو جاث على ركبتيه، وعيناه تهملان، فبكيت، فالتفت إلي فقال: ما شأنك؟ فقلت: من أسوأ هذا الجمع حالاً؟ قال: الذي يظن أن الله - عز وجل - لا يغفر لهم"
7.
فلله در تلك المواقف المشرفة، والبقاع المطهرة، والأزمنة المباركة!!
كم فيها اليوم من داع متضرع منكسر؟ كم فيها من حزين أسيف؟ كم فيها من نائح على ذنوبه، باك على عيوبه؟ كم فيها من رجل بادر الله بالتوبة فبادره ربنا - تبارك وتعالى - بالغفران؟ وخط بدموعه كتاب رجوعه فحط عنه وزر العصيان؟ ليت شعري .. كم ينصرف من هذا الموقف من رجال ما عليهم من الأوزار مثقال ذرة، قد ملأت قلوبهم الأفراح، وعلت وجوههم المسرة؟
فمن فاته في هذا العام القيام والوقوف بعرفة فليقم لله - تبارك وتعالى - بالحق الذي عرفه، ومن عجز عن المبيت بمزدلفة فليبيت عزمه على طاعة الله - تبارك وتعالى - الذي قربه وأزلفه، ومن لم يقدر على نحر الهدي بمنى فليذبح هواه هنا؛ ومن لم يصل إلى بيت الله العتيق فليقصد رب البيت فإنه أقرب إلى من دعاه ورجاه من حبل الوريد، قال الله - سبحانه وتعالى
-: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}8، وقال جل في علاه:
{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}9 فطوبى لأهل عرفة, ثم طوبى لهم!!
ولله در الإمام ابن القيم - عليه رحمة الله - حيث قال في قصيدته الميمية المشهورة: