المبحثُ الأوَّل: تعريفُ الحَجِّ
الحج لغةً: هو القَصْد (1) .
الحجُّ اصطلاحًا: هو قَصْدُ المشاعِرِ المقدَّسة؛ لأداء المناسكِ في مكان ووقت مخصوص تعبُّدًا لله عزَّ وجلَّ (2) .
المبحثُ الثَّاني: تعريفُ العُمْرَةِ
العُمْرَة لغةً: الزيارَةُ والقَصْدُ (3) .
العُمْرَة اصطلاحًا: التعبُّد لله تعالى بالطَّوافِ بالبيتِ، والسَّعْيِ بين الصَّفا والمروة، والتحَلُّلِ منها بالحَلْقِ أو التَّقصيرِ (4) .
المبحث الثَّالث: من فضائِلِ الحَجِّ والعُمْرَة
1- الحجُّ من أفضَلِ الأعمالِ عندَ الله تعالى:
عن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((سُئلَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسَلَّم: أيُّ الأعمالِ أفضَلُ؟ قال: إيمانٌ باللهِ ورسولِه. قيل: ثمَّ ماذا؟ قال جهادٌ في سبيلِ اللهِ. قيل: ثمَّ ماذا؟ قال: حجٌّ مبرورٌ)) (5) .
2- الحجُّ من أسبابِ مغفرةِ الذُّنوبِ:
عن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عنه قال: سَمِعْتُ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم يقول: ((من حجَّ للهِ فلم يرفُثْ ولم يَفْسُقْ، رجَع كيومَ وَلَدَتْه أُمُّه)) (6) .
3- الحجُّ المبرورُ (7) جزاؤُه الجنَّةُ:
عن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسَلَّم قال: ((العُمْرَةُ إلى العُمْرَةِ كفَّارةٌ لِما بينهما، والحجُّ المبرورُ ليس له جَزاءٌ إلَّا الجنَّةُ)) (8) .
4- الحجُّ يَهْدِمُ ما كان قَبْلَه:
عن عبد اللهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسَلَّم: ((أمَا عَلِمْتَ أنَّ الإِسْلامَ يهدِمُ ما كان قَبْلَه، وأنَّ الهجرةَ تهدِمُ ما كان قبْلَها، وأنَّ الحجَّ يهدِمُ ما كان قبْلَه)) (9) .
5- المتابَعَةُ بين الحَجِّ والعُمْرَة تنفي الفَقْرَ والذُّنوبَ:
عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسَلَّم: ((تابِعوا بين الحَجِّ والعُمْرَة؛ فإنَّهما ينفيانِ الفقرَ والذُّنوبَ كما ينفي الكِيرُ خبَثَ الحديدِ والذَّهَبِ والفِضَّةِ)) (10) .
6- العُمْرَةُ إلى العُمْرَة كفَّارةٌ لما بينهما:
عن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسَلَّم قال: ((العُمْرَةُ إلى العُمْرَة كفَّارةٌ لِما بينهما)) (11) .
7- العُمْرَةُ في رمضانَ تَعْدِلُ حَجَّةً مع النبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم:
عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسَلَّم لامرأةٍ من الأنصارِ- سمَّاها ابنُ عبَّاسٍ فنَسيتُ اسْمَها-: ((ما منعَكِ أن تحُجِّي معنا؟)). قالت: لم يكُنْ لنا إلَّا ناضحانِ، فحجَّ أبو وَلَدِها وابنُها على ناضحٍ، وترك لنا ناضحًا ننضِحُ عليه. قال: ((فإذا جاء رمضانُ فاعتَمِري؛ فإنَّ عُمْرَةً فيه تعدِلُ حَجَّةً)) (12) .
وفي رواية: ((فإن عُمْرَةً في رمضانَ تقضي حَجَّةً معي))
المبحَثُ الأوَّلُ: الحُرِّيَّةُ
المطلَبُ الأوَّل: الحُرِّيَّة شرطُ وجوبٍ
الحرِّيَّةُ شرْطٌ في وجوب الحَجِّ، فلا يجِبُ على العبدِ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهِيَّةِ الأربَعَةِ: الحَنَفيَّةِ (1) ، والمالِكِيَّةِ (2) ، والشَّافِعِيَّةِ (3) ، والحَنابِلَة (4) ، وحُكِيَ الإجماعُ على ذلك (5) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الآثارِ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((أيُّما صَبِيٍّ حَجَّ ثم بلَغَ، فعَلَيه حَجَّةُ الإِسْلامِ، وأيُّما عبدٍ حجَّ ثم عُتِقَ، فعليه حَجَّةُ الإِسْلامِ)) (6) .
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ الحَجَّ لو كان واجبًا على العبدِ في حال كونه مملوكًا لأَجْزَأه ذلك عن حَجَّةِ الإِسْلامِ، وقد دلَّ الحديثُ أنَّه لا يُجْزِئُه، وأنَّه إذا أُعْتِقَ بعد ذلك لَزِمَتْه حَجَّةُ الإِسْلامِ (7) .
ثانيًا: أنَّ الحَجَّ عبادةٌ تَطولُ مُدَّتُها، وتتعلَّقُ بقَطْعِ مسافةٍ، والعَبْدُ مستغْرِقٌ في خِدْمَةِ سَيِّدِه، ومنافِعُه مُسْتَحَقَّةٌ له، فلو وجب الحَجُّ عليه لضاعت حقوقُ سَيِّدِه المتعَلِّقَة به، فلم يجِبْ عليه؛ كالجهادِ (8) .
ثالثًا: أنَّ الاستطاعةَ شَرْطٌ في الحَجِّ، وهي لا تتحقَّقُ إلا بمِلْكِ الزَّادِ والرَّاحِلَة، والعبدُ لا يتملَّكُ شيئًا (9) .
المَطْلَب الثَّاني: الحرِّيَّةُ شَرْطُ إجزاءٍ
الحرِّيَّة شَرْطٌ في الإجزاءِ عن حَجِّ الفريضة، فإذا حجَّ العبد لم يُجْزِئْه عن حجِّ الفريضة، ولَزِمَه إذا أُعْتِقَ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهِيَّةِ الأربَعَةِ: الحَنَفيَّةِ (10) ، والمالِكِيَّةِ (11) ، والشَّافِعِيَّةِ (12) ، والحَنابِلَةِ (13) ، وحُكِيَ الإجماعُ على ذلك (14) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الآثارِ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((من حَجَّ ثم عُتِقَ، فعليه حَجَّةٌ أخرى، ومن حَجَّ وهو صغيرٌ ثمَّ بَلَغ، فعليه حَجَّةٌ أخرى)) (15) .
ثانيًا: أنَّ الرقيقَ فَعَلَ ذلك قبل وُجوبِه عليه، فلم يُجْزِئْه إذا صار من أهْلِه، كالصَّغيرِ (16) .
المبحث الثَّاني: البُلوغُ
المَطْلَبُ الأوَّلُ: حُكْمُ حَجِّ الصَّبيِّ
البلوغُ ليس شرطًا لصِحَّةِ الحَجِّ، فيصِحُّ مِنَ الصَّبيِّ (17) ، فإن كان مُمَيِّزًا (18) أحرَمَ بنَفْسِه، وإن لم يكن مُمَيِّزًا أحرم عنه وَلِيُّه، وهذا مَذْهَبُ الجُمْهورِ مِنَ المالِكِيَّة (19) ، والشَّافِعِيَّة (20) ، والحَنابِلَة (21) ، وبعضِ الحَنَفيَّةِ (22) ، وجماهيرِ العُلَماءِ مِنَ السَّلَفِ والخَلَفِ (23) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم لَقِيَ ركبًا بالرَّوْحاءِ، فقال: مَنِ القَوْمُ؟ قالوا: المسلمونَ، فقالوا: من أنت؟ قال: رسولُ اللهِ، فرفَعَتْ إليه امرأةٌ صَبِيًّا، فقالت: ألِهذا حَجٌّ؟ قال: نعم، ولكِ أَجْرٌ)) (24) .
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ الصبيَّ الذي يُحمَل بِعَضُدِه، ويُخْرَج من الْمِحَفَّةِ لا تمييزَ له (25) .
2- عن السَّائِبِ بن يزيدَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((حُجَّ بي مع رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم وأنا ابنُ سَبْعِ سِنِينَ)) (26) .
ثانيًا: أنَّه يَصِحُّ من الوليِّ عَقْدُ النِّكاحِ عنه والبَيْع والشِّراء بمالِه، فيصِحُّ إحرامُه عنه إذا كان غيرَ مُمَيِّز (27) .
المَطْلَب الثَّاني: البلوغُ شَرْطُ وجوبٍ، وشَرْطُ إجزاءٍ
البلوغُ شَرْطُ وجوبٍ وشَرْطُ إجزاءٍ، فلا يجِبُ الحَجُّ على الصبيِّ، فإن حَجَّ لم يُجْزِئْه عن حَجَّة الإِسْلامِ، وتَجِبُ عليه حَجَّةٌ أخرى إذا بلغ (28) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم قال: ((رُفِعَ القَلَمُ عن ثلاثةٍ: عَنِ النَّائِمِ حتى يستيقِظَ، وعن الصَّبيِّ حتى يحتلِمَ، وعن المجنونِ حتى يَعْقِلَ)) (29) .
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ في قَوْلِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسَلَّم: ((رُفِعَ القَلَمُ عن ثلاثة ... وعن الصبيِ حتى يحتَلِمَ)) دليلًا على أنَّ حَجَّ الصبيِّ تطَوُّعٌ، ولم يُؤَدِّ به فرضًا؛ لأنَّه مُحالٌ أن يُؤَدِّيَ فرضًا من لم يجِبْ عليه الفَرْضُ (30)
ثانيًا: مِنَ الإجماعِ
نَقَلَ الإجْماعَ على عَدَمِ وجوبِ الحَجِّ إلَّا بالبلوغِ: ابنُ المُنْذِر (31) ، وابنُ جُزَيٍّ (32) ، والشِّربيني (33) ، ونَقَلَ الإجْماعَ على عَدَمِ إجزاءِ الحَجِّ إلَّا بالبلوغِ: الترمذِيُّ (34) وابنُ المُنْذِر (35) ، وابنُ عبدِ البَرِّ (36) ، والقاضي عِياضٌ (37) .
ثالثًا: أنَّ من لم يبلُغْ ليس مكَلَّفًا فلا يتعَلَّقُ به التَّكْليفُ (38) .
المَطْلَب الثَّالِث: ما يفعَلُه الصبيُّ بنَفْسِه وما يفْعَلُه عنه ولِيُّه
ما يفعله الصبيُّ من أعمالِ الحَجِّ على قسمينِ:
القِسْم الأوَّل: ما يَقْدِرُ عليه الصبيُّ بنَفْسِه؛ كالوقوفِ بعرفَةَ، والمَبِيتِ بمُزْدَلِفَة ومِنًى، فإنَّه يلزَمُه فِعْلُه (39) ، ولا تجوزُ فيه النِّيابَةُ.
القِسْم الثَّاني: ما لا يَقْدِرُ عليه؛ فإنَّه يَفْعَلُه عنه وليُّه (40) .
أقسامُ الاستطاعَةِ في الحَجِّ والعُمْرَةِ أربعةٌ: القِسْمُ الأوَّلُ: أن يكون قادرًا ببَدَنِه ومالِه: فهذا يلزَمُه الحَجُّ والعُمْرَةُ بنفسِه بإجماعِ أَهْلِ العِلْمِ (1) . القِسْم الثَّاني: أن يكونَ عاجزًا بمالِه وبَدَنِه: فهذا يسقُطُ عنه الحَجُّ والعُمْرَةُ بإِجْماعِ أَهْلِ العِلْمِ (2) . القِسْم الثَّالِث: أن يكون قادرًا ببَدَنِه عاجزًا بمالِه: فلا يلزَمُه الحَجُّ والعُمْرَة بلا خلافٍ (3) , إلَّا إذا كان لا يتوقَّفُ أداؤُهما على المالِ؛ مثل: أن يكونَ مِن أهْلِ مكَّةَ لا يشُقُّ عليه الخروجُ إلى المشاعِرِ (4) .
القِسْم الرَّابِع:.أن يكون قادرًا بمالِه عاجزًا ببَدَنِه عجزًا لا يُرجى زَوالُه: فيجب عليه الحَجُّ والعُمْرَةُ بالإنابةِ (5) .
المطلب الأول: من لا يستطيعُ أن يَثبُتَ على الآلةِ أو الرَّاحلة مَن كان مريضًا لا يَستمِسكُ على الرَّاحلةِ، أو مَعضوبًا (1) ؛ فلا يلزمُه المسيرُ إلى الحجِّ. الأدلة: أولًا: من الكتاب قال الله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران: 97]. وجه الدلالة: أنَّ من لا يستطيعُ أن يَثبُتَ على الرَّاحلةِ أو يستَمسِكَ بها، فهو غيرُ مُستطيعٍ, فلا يجبُ عليه الحَجُّ بنَفسِه؛ لأنَّه إنما وجبَ على من استطاع إليه سَبيلًا (2) . ثانيًا: من السنة عن عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أنَّه جاءَتْه امرأةٌ مِن خَثعَم تستفتيه، قالت: يا رسولَ الله، إنَّ فريضةَ اللهِ على عبادِه في الحجِّ، أدرَكَت أبي شيخًا كبيرًا لا يستطيعُ أن يثبُتَ على الرَّاحلةِ، أفأحُجُّ عنه؟ قال: نعم)) (3) ، وفي رواية: ((قالت: يا رسولَ الله، إنَّ أبي شيخٌ كبيرٌ، عليه فريضةُ اللهِ في الحَجِّ، وهو لا يستطيعُ أن يستوِيَ على ظَهرِ بَعيرِه، فقال صلَّى الله عليه وسلَّم: فحُجِّي عنه)) (4) . ثالثًا: من الإجماع نقلَ الإجماعَ على ذلك ابنُ العَرَبيِّ (5) ، والقرطبيُّ (6) ، وابنُ تيميَّة (7) . المَطْلَب الثَّاني: مَن فَقَد الاستطاعَةَ البَدنيَّةَ هل يلزَمُه أن يُنِيبَ عنه؟ من كان قادرًا بمالِه عاجزًا ببَدَنِه؛ فإنَّه يجب عليه الحَجُّ، بإرسالِ من ينوب عنه، وهذا مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّة (8) ، والحَنابِلَة (9) ، وهو قولٌ للحَنَفيَّة (10) ، واختاره ابنُ حزمٍ (11) ، وابنُ عُثيمين (12) . الأدلَّة: أوَّلًا: مِنَ الكِتاب قال اللهُ تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران: 97]. وَجْهُ الدَّلالَةِ: أنَّ عُمومَ قَولِه: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا يشمَلُ من استطاعَ الحَجَّ بمالِه، فيُنيبُ من يؤدِّي عنه الحَجَّ (13) . ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ عن عَبْدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم: ((أنَّه جاءَتْه امرأةٌ من خَثْعَم تستفتيه، قالت: يا رسولَ اللهِ، إنَّ فريضَةَ اللهِ على عبادِه في الحَجِّ أدرَكَتْ أبي شيخًا كبيرًا لا يستطيعُ أن يَثْبُتَ على الرَّاحِلَةِ، أفأَحُجُّ عنه؟ قال: نَعَم)) (14) . وَجْهُ الدَّلالَةِ: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم أقرَّ المرأةَ على وَصْفِ الحَجِّ على أبيها بأنَّه فريضةٌ، مع عَجْزِه عنه ببَدَنِه، ولو لم يجِبْ عليه لم يُقِرَّها الرَّسولُ صلَّى الله عليه وسَلَّم؛ لأنَّه لا يُمكِنُ أن يُقِرَّ على خطأٍ؛ فدلَّ على أنَّ العاجِزَ ببَدَنِه القادِرَ بمالِه؛ يجبُ عليه أن يُنيبَ (15) .
ثالثًا: لأنَّ هذه عبادةٌ تجب بإفسادِها الكَفَّارة، فجاز أن يقومَ غيرُ فِعْلِه فيها مقامَ فِعْلِه؛ كالصَّوْمِ إذا عجز عنه افتدى (16) .
المَطْلَب الأوَّل: اشتراطُ الزَّادِ والرَّاحِلَةِ:
يُشْتَرَطُ في وجوبِ الحَجِّ القُدرةُ على نفقَةِ الزَّادِ والرَّاحِلَة (1) ، فاضلًا عن دَينِه، ونفقَتِه، وحوائِجِه الأصليَّة (2) ، وهذا مَذْهَبُ الجُمْهورِ: الحَنَفيَّة (3) ، والشَّافِعِيَّة (4) ، والحَنابِلَة (5) ، وهو قَوْل سحنون, وابنِ حبيبٍ من المالِكِيَّة (6) ، وبه قال أكثَرُ الفُقَهاءِ (7) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتاب
1- قال اللهُ تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران: 97].
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ الله عَزَّ وجَلَّ لَمَّا قال: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا عَلِمْنَا أنَّها استطاعَةٌ غيرُ القُوَّةِ بالجِسْمِ; إذ لو كان تعالى أراد قُوَّةَ الجِسْمِ لَمَا احتاج إلى ذِكْرِها; لأنَّنا قد عَلِمْنا أنَّ الله تعالى لا يُكَلِّفُ نفسًا إلَّا وُسْعَها (8) .
2- قال اللهُ تعالى: وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ [النحل: 7].
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ الآيةَ تُفيدُ أنَّ الرِّحْلَة لا تبلُغُ إلَّا بِشِقِّ الأنفُسِ بالضَّرورة، ولا يُكَلِّفُنا اللهُ تعالى ذلك؛ لِقَوْله تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحَجُّ: 78] (9) ، فتعيَّنَ اشتراطَ الزَّادِ والرَّاحِلَة؛ لتحقيقِ الاستطاعَةِ في الحَجِّ.
3- قال اللهُ تعالى: وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى البقرة: 197[.]
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((كان أهلُ اليَمَنِ يحجُّونَ ولا يتَزَوَّدون، ويقولون: نحن المتوَكِّلون، فإذا قَدِموا مَكَّةَ، سألوا النَّاسَ، فأنزل اللهُ عَزَّ وجَلَّ: وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)) (10) .
المَطْلَب الثَّاني: من يُشتَرَطُ في حَقِّه الرَّاحِلَةُ
اشتراطُ الرَّاحِلَةِ خاصٌّ بالبعيدِ عن مكَّةَ الذي بينه وبينها مسافَةُ قَصْرٍ، أمَّا القريبُ الذي يُمكِنُه المشيُ، فلا يُعتَبَر وجودُ الرَّاحِلَة في حَقِّه، إلَّا مع عجزٍ؛ كشيخٍ كبيرٍ لا يُمكِنُه المشيُ، وهذا مَذْهَبُ الجُمْهورِ: الحَنَفيَّة (11) ، والشَّافِعِيَّة (12) ، والحَنابِلَة (13) .
وذلك للآتي:
أوَّلًا: أنَّها مسافةٌ قريبةٌ يمكِنُه المشيُ إليها، فلَزِمَه؛ كالسَّعْيِ إلى الجمعةِ (14) .
ثانيًا: أنَّه لا تلحَقُهم مشقَّةٌ زائدةٌ في الأداءِ مشيًا على الأقدامِ، فلم تُشْتَرَطِ الرَّاحِلَة (15) .
المَطْلَب الثَّالِث: الحاجاتُ الأصليَّةُ التي يُشتَرَط أن تَفْضُلَ عن الزَّاد والرَّاحِلَة:
الحاجة الأُولى: نفقَةُ عيالِه ومَن تَلْزَمُه نفقَتُهم، مدَّةَ ذَهابِه وإيابِه.
الحاجة الثَّانية: ما يحتاجُ إليه هو وأهلُه مِن مَسْكَنٍ، ومِمَّا لا بدَّ لِمِثْلِه؛ كالخادِمِ، وأثاثِ البَيْتِ، وثيابِه؛ بقَدْرِ الاعتدالِ المناسِبِ له في ذلك.
الحاجة الثَّالِثة: قضاءُ الدَّينِ الذي عليه، لأنَّ الدَّينَ من حقوقِ العِبادِ، وهو من حوائِجِه الأصليَّة، فهو آكَدُ، وسواءٌ كان الدَّينُ لآدميٍّ أو لحقِّ اللهِ تعالى؛ كزكاةٍ في ذِمَّتِه، أو كفَّارات ونحوِها (16) .
المَطْلَب الرَّابِع: هل يُقَدِّمُ الحَجَّ أو الزَّواجَ؟
مَن وجَب عليه الحَجُّ وأراد أن يتزوَّجَ، وليس عنده من المالِ إلَّا ما يكفي لأحدِهما، فإنْ تاقت نفْسُه إلى الزَّواجِ وخاف مِنَ الزِّنا؛ قدَّمَ الزواجَ على الحَجِّ، وهذا مَذْهَبُ الجُمْهورِ: الحَنَفيَّة (17) ، والمالِكِيَّة (18) ، والحَنابِلَة (19) ، وحُكِيَ الإجماعُ على ذلك (20) .
وذلك للآتي:
أوَّلًا: أنَّ مَنِ اشتدَّت حاجَتُه إلى الزواجِ وجَبَتْ عليه المبادَرَةُ به قبل الحَجِّ؛ لأنَّه في هذه الحالِ لا يُسمَّى مُستطيعًا (21) .
ثانيًا: أنَّ في التزويجِ تحصينَ النَّفْسِ الواجِبَ، ولا غِنَى به عنه؛ كنَفَقَتِه، والاشتغالُ بالحَجِّ يُفَوِّتُه (22) .
ثالثا: أنَّ في تَرْكِه النِّكاحَ أمرَينِ: تَرْكَ الفَرْضِ، وهو النِّكاحُ الواجِبُ، والوقوعَ في المُحَرَّمِ، وهو الزِّنا (23) .