إن التدريب العملي والممارسة التطبيقية ولو مع التكلف في أول الأمر ، وقسر النفس على غير ما تهوى ، من الأمور التي تكسب النفس الإنسانية العادة السلوكية ، طال الزمن أو قصر.
والعادة لها تغلغل في النفس يجعلها أمرًا محببًا ، وحين تتمكن في النفس تكون بمثابة الخلق الفطري ، وحين تصل العادة إلى هذه المرحلة تكون خلقًا مكتسبًا ، ولو لم تكن في الأصل الفطري أمرًا موجودًا.
وقد عرفنا أنَّ في النفس الإنسانية استعدادًا فطريًّا لاكتساب مقدار ما من كلِّ فضيلة خلقية ، وبمقدار ما لدى الإنسان من هذا الاستعداد تكون مسؤوليته ، ولو لم يكن لدى النفوس الإنسانية هذا الاستعداد لكان من العبث اتخاذ أية محاولة لتقويم أخلاق الناس. والقواعد التربوية المستمدة من الواقع التجريبي تثبت وجود هذا الاستعداد ، واعتمادًا عليه يعمل المربون على تهذيب أخلاق الأجيال التي يشرفون على تربيتها ، وقد ورد في الأثر : (العلم بالتعلم ، والحلم بالتحلم).
وثبت أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال :*((ومن يستعفف يعفَّه الله ، ومن يستغن يغنه الله ، ومن يتصبر يصبره الله)). رواه البخاري ومسلم.
📚 فقد روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري أن ناسًا من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم ، ثم سألوه فأعطاهم حتى نفد ما عنده ، فقال لهم حين أنفق كل شيء بيده : ((ما يكن عندي من خير فلن أدخره عنكم ، ومن يستعفف يعفَّه الله، ومن يستغن يغنه الله ، ومن يتصبر يصبره الله ، وما أعطي أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر)).
وضرب الرسول صلى الله عليه وسلم مثلًا دلَّ فيه على أنَّ التدريب العملي ولو مع التكلف يكسب العادة الخلقية ، حتى يصير الإنسان معطاء غير بخيل ، ولو لم يكن كذلك أول الأمر.
● روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ((مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جُنتان*من حديد من ثديهما إلى تراقيهما*، فأما المنفق فلا ينفق إلا سبغت أو وفرت على جلده ، حتى تخفي بنانه ، وتعفو أثره ، وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئًا إلا لزقت كل حلقة مكانها ، فهو يوسعها فلا تتسع)).
فدلَّ هذا الحديث على أن المنفق والبخيل كانا في أول الأمر متساويين في مقدار الدرعين.
أما المنفق فقد ربت درعه بالإنفاق حتى غطت جسمه كلِّه ، بخلاف البخيل الذي لم يدرب نفسه على الإنفاق ، فإن نفسه تكز ، والله يضيق عليه من وراء ذلك ، فيكون البخل خلقًا متمكنًا من نفسه مسيطرًا عليها.
ومن ذلك نفهم #أمرين : فطرية الخلق ، وقابليته للتعديل بالممارسة والتدريب العملي ، إنَّ المنفق كان أول الأمر كالبخيل يشبهان لابسي درعين من حديد متساويين ويبدو أن الدرع مثال لما يضغط على الصدر عند إرادة النفقة ، فمن يتدرب على البذل تنفتح نفسه كما يتسع الدرع فلا يكون له ضغط ، وأما من يعتاد الإمساك فيشتد ضاغط البخل على صدره ، فهو يحس بالضيق الشديد كلما أراد البذل ، ومع مرور الزمن يتصلب هذا الضاغط.
واعتمادًا على وجود الاستعداد الفطري لاكتساب الخلق ، وردت الأوامر الدينية بفضائل الأخلاق ، ووردت النواهي الدينية عن رذائل الأخلاق.
ولكن من الملاحظ أنه قد يبدأ التخلق بخلق ما عملًا شاقًّا على النفس ، إذا لم يكن في أصل طبيعتها الفطرية ، ولكنه بتدريب النفس عليه ، وبالتمرس والمران ، يصبح سجية ثابتة ، يندفع الإنسان إلى ممارسة ظواهرها اندفاعًا ذاتيًّا ، دون أن يجد أية مشقة أو معارضة أو عقبة من داخل نفسه ، ولئن وجد شيئًا من ذلك فإنَّ دافع الخلق المكتسب يظلُّ هو الدافع الأغلب ، بشرط أن يكون التخلق قد تحول فعلًا إلى خلق مكتسب.
وليس التدريب النفسي ببعيد الشبه عن التدريب الجسدي ، الذي يكتسب به المهارات العملية الجسدية).*