نَسْمَعُ وَنقرأُ عَنْ مَواقِفَ مُتنوعةٍ ؛ كَرجلٍ تَخَاصَمَ مَعَ زَوجهِ أمَامَ النَّاسِ ، أوِ امرأةٍ تُرهقُ زوجها ، أو زَوجٍ لا يبالي بمشاعرِ زوجتهِ ، وحياةٌ زوجيةٌ على كَفِ عِفْريتٍ !! لا تهدأُ ولا تَستقرُ حتَّى تعودَ أسوأَ ممَّا كانتْ ، مَواقِفُ يَجْمَعُ بينها فَقْدُ الهدوءِ و انفعالاتٌ صَاخبةٌ، أمورٌ كثيرةٌ رصدتها أُدَوِنُ لكُم شَيئاً ممَّا خَطَرَ لِيكونَ رَسُوْلَ تَرْبيةٍ ، وَعُنْوَانَ هِدَايةٍ .
عِندَمَا تَكُوْنُ حَياةُ الفَردِ منَّا أَوْ الأُسْرَةِ متناغمةً مع الفطرةِ والبيئةِ التي نعيشُ فيها ؛ فممَّا لا شَكَّ فيهِ أننَّا سنحظى بقدرٍ كَبيرٍ مِنْ الهدُوءِ النَّفسيِّ وَالعَاطِفيِّ وَالاجتماعيِّ وَغيرِ ذلكَ مما نُريدُ ونحبُ ، بَلْ أصبحَ الهدوءُ والانسجامُ لدى بعضنا أَبعدَ من الثُريا ، فَليسَ الهدوءُ الأسري والزَّوجي إلا أماني ؛ وأصبحتِ الأزمةُ أو التَّأزمُ يُسيطرُ على مَقاطِعَ ومفاصلَ كثيرةٍ من حياتنا فلا نتمتعُ بلحظاتِ هدوءٍ حتى تتعكرَ مشاعِرنا : مِنَ الماضي والحاضرِ والمستقبل !! ، وندخل دوامةً من المشاعرِ المتناقضةِ التي تعصفُ ببراءةِ قلوبنا وتجعلها كيتيمٍ على قَارعةِ طَريقٍ !! .
أذكرُ أني التقيتُ بمُفَكرٍ مَصْريٍ فقال : يا بُني الحياةُ لا تَحتاجُ إلى هذا الصَّخبِ الكَبير !! وتأملتُ كثيراً في كلمتهِ فرأيتُ أننا كُلما أبعدتنا عَنِ التَّعاملِ الفِطري مع حياتِنا كُلمَّا كَانتْ الحياةُ صَخباً لا يُطاقُ ، ونكونُ كآلاتِ المصانعِ التي تعملُ على مَدارِ السَّاعة !! ، فالقُرْبُ من الطَّبيعةِ يُخَفِفُ من حدةِ تصرفاتنا ويضبطُ الانفِعَالاتِ النَّفسية.
إنَّنَا نَرى أشخاصاً تعلو مظاهِرَهم البَهْجةُ من حُسنِ اللباس ، والرَّائحةِ الزَّكية ، وَلكنَّ وجوهَهُم تعلوها قَتَرةُ حُـزْنٍ ، ويلُفُها هُدوءٌ مُزَّيفٌ ؛ فهذهِ مظهريةٌ جوفاءُ سُرعانَ ما تنفجرُ.
و الريحُ التي تعصِفُ بالهدوءِ إنَّمَّا هي دوائرُ صَعبةٌ يمرُ بها الفَرْدُ والأُسْرةُ ، فالحياةُ ومَا تحتاجهُ من التزاماتٍ ، والأبناءُ وهمومهم ، والرَّغبةُ في المالِ والتَّرفِ ، والمكانةُ الاجتماعيةُ التي تُسَيْطرُ على تَفْكِيرِ البَعْض ، والمقارنةُ الخاطئةُ ؛ كُلُها أسبابٌ تجعلُ الحياةَ كابوساً لا يُطاقُ ، فيغضبُ المرءُ من غير سَببْ ، وتكونُ النَّفسُ دائماً على خطِ النَّار ؛ مستعدةً لأيِّ ثورةٍ ، وفي حشاها بركانٌ تثورُ منه أرتالٌ من السُّحُبِ السَّوداءِ التي تُحيلُ النَّهارَ ليلاً ، والهدوءَ ذُعراً ، والملجأُ بعيدٌ ، والحيلةُ معلقةٌ في السَّماء ، فعندها تموجُ الأفكارُ والمشَاعرُ ؛ و يكونُ الشَّيطان قدْ رقصَ طرباً ؛فقدْ وقعَ الفَردُ أوِ الأسرةُ في شِباكهِ الملتويةِ !! .
إنَّ المشاكلَ كما بينَّا سابقاً جزءٌ من فِطْرَتنا ، لكنْ أنْ تنقلبَ الفِطْرةُ لِتكُونَ هِيَ المشْكِلةُ !! ويكونَ الاستثناءُ هو الأصلُ: هنا المشكلةُ الكَبيرةُ ، وهي فكريةٌ وعلميةٌ بدرجةٍ كبيرةٍ ، كُلمَّا زادَ عِلْمُ المرءِ وتجربتهُ كُلمَّا تَخلَّصَ من هذهِ الشَّوائبِ والعوالقِ السَّيئةِ .
والهدوءُ يرادفُ السَّكينة، والسَّكينةُ لفظٌ قرآنيٌ بلاغيٌ يحملُ في تضاعيفهِ معانٍ شفافةٍ ورقيقةٍ جُمِعَ شتاتها في كلمةِ السَّكينةِ التي تعني السُّكونَ والرَّاحة بل والتَّرف النفسي !!.
لقدْ قالَ ابنُ أبي سلولٍ كلمةَ الإفك في عِرضِ أطهرِ من مشى بقدمٍ ، في حينِ كان هذا المنافقُ يكرهُ فتياتهِ على البغاء !! ، فكانَ فعلهُ وكلماتهُ متوافقةً مع ما يضمرهُ قلبهُ ؛ فالخبيثُ منَ الكلماتِ للخبيثِ مِنَ الرجالِ والنِساء ، والطَّيبُ مِنَ القَولِ للطَّيبِ من الرِجال والنِساء .
إنَّ أعظمَ أزمةٍ تمرُ بها الأسرةُ هي أزمةُ العِرضِ ، فكيفَ يتلَّقى المرءُ مثلهُ !! وكيفَ يُتعَامَلُ مَعَهُ !! وما الهدُوءُ الذي نُطَالِبُ بهِ !! ، إنَّ النَّبيَّ عليهِ السَّلامُ لما أرادَ اللهُ كرامتهُ بهذا الابتلاءِ جعلهُ يتعاملُ معَ هذهِ القضيَّة ببشريتهِ فلم ينزلْ عليه وحيُ السَّماءِ ثمانٍ وعشرين ليلة ، وكانَ واثقاً من زوجهِ الطَّاهِرة ، فَلم يكن يختارُ إلا طيباً ، ومن أينَ تأتي الرِيبة ؟! فِلمْ تَسْمَعْ مِنْهُ زوجهُ خِلالَ هذه المدةِ كلمةً تسوءُ أو تجرحُ أو تعدُ نوعاً من التَّوجس أو التَّحقيقِ والمراقبة ؛ أبداً ، إنَّما تعاملَ مع الأمرِ ببشريةٍ قائمةٍ على المؤشراتِ الحسنةِ ، والتَّعاملِ الطَّيبِ ، فهذا بيتهُ وهو أعلمُ النَّاسِ وأخبَرُهم بهِ ، ثمَّ لما بلغَ الأمرُ ذروتهُ وماجَ حديثُ الإِفكِ ، ونجم النِفاقُ خلالَ ثمانٍ وعشرينَ ليلة ، عَلِمتْ عائشةُ رضي الله عنها بما قِيلَ في آخِرِ الأيامِ ؛ وهَذا يُعتبرُ تطوراً يستوجبُ تَصرُفاً سَريَعاً وحكِيماً ، فما أنْ خَرجتْ مِنْ بيتِ زَوجها تتحسسُ الخبرَ حتى تسارعتِ الأحداثُ ؛ ففي أقلَّ مِنْ ساعةٍ يستدعي الزَّوجُ النَّبيُّ علياً وأسامةَ للمشَاورةِ؛ لأنَّهم أقربُ النَّاسِ إليهِ ، وأعَرفُ بزوجهِ وعلاقته بها ؛ يستشيرُ وهو نبيٌّ ؟ نعم ويستشيرُ شباباً في ريعان شبابهم !! فلم يتعالى ويظن أنَّهُ لا حاجةَ له بالمشورةِ كَما يفعلُ الكثيرُ منَّا !! ، ثم يخرجُ إلى المسجدِ ويَعْذِرُ فيمنْ قالَ في عِرضِهِ مَا قالَ ، ويخرجُ من المسجدِ إلى بيتِ أبي بكرٍ حيثُ ذهبتْ زوجهُ؛ ويدورُ في جنباتِ ذاكَ البيتِ حديثٌ يقطرُ من الحكمةِ والهدوءِ والعقلِ فلا سِبابَ ولا رفعَ صوتٍ ولا إلقاءَ تُهَمٍ ، حديثٌ لا تسمعُ فيه لاغية ؛ وإنَّما ملاطفةٌ وكلامٌ هادئٌ حتى نزلَ الوحي من السَّماءِ في موقفٍ تقشعرُ لهُ الأبدانُ ، وتُذْرَفُ مِنْ مشاعرهِ الدموعُ ، فعلى عظمِ الموقفِ والتُّهمة، وجلالةِ المتهمِ وكِمالهِ، فقدْ كَانَ الهدوءُ الأُسريُ هو السَّائدُ في ذلكَ الموقفِ العَظِيم، كَمَا أنَّ الغَيْرةَ لا تُناقِضُ الهدوءَ الذي نَدعُو إليهِ.
إنَّ الهدوءَ مجموعةٌ من القِيمِ والمهَاراتِ المتراكمةِ وليسَ مجردَ كلامٍ نحسنُ سَبْكَهُ والحديثَ عَنْهُ ، إنَّهُ فِي الأصلِ حُسْنُ تعبدٍ للهِ تَعالى ومحافظةُ على أوامرهِ ، وبُعْدٌ عن مَواقِعِ الرِّيبِ وأَهْلِهَا ، ومخالطةٌ لمن حَسُنَ دينهُ و رقَّ طَّبْعُهُ ؛ وإحاطةُ ذلكَ كُلِّهِ بصدقِ اللجأ إلى الله ، وتطبيقُ تلكَ المهاراتِ من المشُّورةِ ، والتَّريثِ ، والمراعاةِ النَّفسيةُ .
وممَّا يعينُ على الهدوءِ: النَّظرُ إلى الأمورِ بإيجابيةٍ وحُسْنِ ظنٍ ، فذلكَ أحرى بالاستفادةِ من المواقفِ ومحاولةُ تطويعها حتى يكونَ فيها قبسٌ من ضوءٍ ، ونسلَمَ من غوائلها، من بَابِ قولِ الله تعالى ( لا تحسبوهُ شراً لكم بلْ هو خيرٌ لكم ).
وبعدها : لن تُزعزعَ حياتنا أيُّ قضيةٍ ، وتعودَ الحياةُ أجملَ مما كَانتْ ، بل أحلا من الشَّهد في أفواهنا .
إننا نفقدُ هدوءنا وأعصابنا تضطربُ فيما هو أقلُ من ذلك !! بل ربما كان من توافهِ الأمورِ التي لا يليقُ بالمرءِ أنْ يقفَ عندها بل يُمَرَها مع شيءٍ من التَّغافُل.
ولو تأملنا في واقعِ حياةِ الأنبياءِ في أُسَرِهِم لوجدنا أنَّ تلك القيم مشتركةٌ بينهم فبيتُ نوحٍ ولوطٍ كان هادئاً مع أنَّ زوجتيهم خَانتاهما بأنْ كانتا عَلى غَيرِ دينهما ، وتنقلانِ أخبارهَما إلى قومهما .
وفي خبرِ مَريمَ مَا يُسلي ويَذْهَبُ بهمومِ مَنْ أُصِيبَ بمُصيبةٍ تَجعلُ النَّاس يقفونَ منهُ موقِفَ الرَّيبةِ ، ويصور القُرآنُ ذلكَ الألمَ الذي جَثم عَلى قَلْبِها ( يَا ليتني مِتُّ قبلَ هذا وكنتُ نسياً منسياً ) فتأملوا ذلك !!.
أنْ نوصفَ بالهدوءِ أمرٌ سَهْلٌ ، وأنْ نتحدثَ عن الهدوءِ أَسْهَلُ بكثيرٍ ، لكن أنْ ننجحَ في تطبيقِ هذا المعنى أمرٌ يحتاجُ إلى عزيمةٍ وقوةٍ وملكةٍ فذةٍ ، وفاقدُ الشَّيءِ لا يعطيهِ.
مظاهرُ الهدوءِ وعلاماتهُ كثيرةٌ ، ويمكنُ قياسهُ والتنبوءُ به ؛ من خِلالِ سَمَاعِ الزَّوجينِ لحديثِ بعضهما ، ومحاولةِ الإصغاءِ عندما يتحدثُ الآخَر ، إنْ قَطْعَ الحديثِ ومحاولة عدمِ الاستماع دليلٌ على التَّوترِ !! ، كما أنَّ الفَرَحَ باللقَاء ، وقضاءَ الحوائجِ بنفسٍ طيبةٍ ، وسخاءِ اليد ، والتَّرفيهُ عن الأسرةِ ولو كانتْ فَردينِ ، والاسترخاءُ البَدنيُ والفِكْرِي ، والمناقشاتُ والحواراتُ الفكريةُ والثَّقافيةُ بين الزَّوجينِ حولَ أيِّ قضيةٍ ، ومظاهرُ الحبِ والحنانِ بينهما حالَ الصحةِ والمرضِ ، ورباطةُ الجأشِ والأناةُ عن حُدوثِ شيءٍ ؛ كلُ ذلكَ مِنْ مظاهرِ الهدوءِ الأُسري .
إنَّ الأحزانَ التي تمرُ بنا إنَّما هي جزءٌ من حياتنا البشريةِ ؛ لكن ينبغي ألا تفقدنا الأحزانُ هدوءنا ، ونفقدَ الأمل ، ونقفَ عند تلك النُقطة !! ، ونجعلَ حياتنا كورقةٍ تذروها الرِياح ، وإنَّ المرءَ الذي أحاطَ نفسهُ بأسوارِ اليأسِ والقُنوطِ لا يمكنهُ أنْ يحظى بلحظاتِ هدوءٍ داخلَ بيتهِ الصَّغيرِ ومع زوجهِ وصِغَارِهِ .