يصادف 8 فبراير 2024، ذكرى
الإسراء والمعراج،
والتي نستفيد من سردها والحديث عنها، الكثير
من الدروس والعبر لنا وللإنسانية جمعاء.
كان وجود أبي طالب بجانب رسول
الله
صلى
الله عليه وسلم، سياجا واقيا له يمنع عنه
أذى قريش؛ لأن قريشا ما كانت تريد أن تخسر أبا طالب،
ولـما توفي أبو طالب؛ انهار هذا الحاجز، ونال
رسول
الله صلى
الله عليه وسلم من الضرر
الجسدي الشيء الكثير، وكانت خديجة رضي
الله عنها
زوج رسول
الله صلى
الله عليه وسلم البلسم الشافي
لما يصيب رسول
الله صلى
الله عليه وسلم من
الجراح النفسية التي يلحقها به المشركون، ولـما
توفيت فقد رسول
الله صلى
الله عليه وسلم
هذا البلسم.وخرج رسول
الله صلى
الله عليه وسلم
إلى الطائف بعدما اشتد عليه أذى قريش
وأمعنوا في التضييق عليه، يطلب من زعمائها
نصرة الحق الذي يدعو إليه، وحمايته، حتى يبلغ
دين الله، فما كان جوابهم إلا أن ردوه أقبح رد،
ولم يكتفوا بذلك؛ بل أرسلوا إلى قريش رسولا
يخبرهم بما جاء به محمد صلى
الله عليه وسلم ،
فتجهمت له قريش، وأضمرت له الشر، فلم
يستطع رسول
الله صلى
الله عليه وسلم دخول
مكة إلا في جوار رجل كافر، لقد تجهمت له
قريش، وأحدقت برسول
الله صلى
الله عليه وسلم ،
فزادت حزنه، وهمه؛ حتى سمي ذلك العام بالنسبة
لرسول
الله صلى
الله عليه وسلم بـ(عام الحزن)،
وبعد هذا كله حصلت معجزة
الله لرسوله، ألا
وهي:
الإسراء والمعراج.
أما هدف هذه المعجزة، فيتمثل في أمور؛ من أهمها:
الله -عز وجل- أراد أن يتيح لرسوله صلى الله
عليه وسلم فرصة الاطلاع على المظاهر الكبرى
لقدرته؛ حتى يملأ قلبه ثقة فيه، واستنادا إليه؛
حتى يزداد قوة في مهاجمة سلطان الكفار القائم
في الأرض، كما حدث لموسى عليه السلام، فقد
شاء أن يريه عجائب قدرته. قال تعالى:
﴿وما تلك بيمينك يا موسى قال هي عصاي أتوكأ
عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى
قال ألقها يا موسى فألقاها فإذا هي حية تسعى
قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى
واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى ﴾
[طه: 17 – 22] فلـما ملأ قلبه بمشاهدة هذه الآيات
الكبرى، قال له بعد ذلك: ﴿لنريك من آياتنا الكبرى﴾ [طه: 23].
في رحلة
الإسراء والمعراج أطلع
الله نبيه صلى
الله
عليه وسلم على هذه الآيات الكبرى، توطئة للهجرة،
ولأعظم مواجهة على مدى التاريخ للكفر، والضلال،
والفسوق. والآيات التي رآها رسول
الله صلى الله
عليه وسلم كثيرة؛ منها: الذهاب إلى بيت المقدس،
والعروج إلى السماء، ورؤية الأنبياء، والمرسلين،
والملائكة، والسموات، والجنة، والنار، ونماذج من
النعيم والعذاب… إلخ، كان حديث القرآن الكريم
عن
الإسراء في سورة الإسراء، وعن المعراج في
سورة النجم، وذكر حكمة
الإسراء في سورة
الإسراء
بقوله: ﴿لنريه من آياتنا﴾ [الإسراء: 1] وفي سورة النجم
بقوله: ﴿لقد رأى من آيات ربه الكبرى﴾ [النجم: 18]. وفي
الإسراء والمعراج علوم، وأسرار، ودقائق ودروس، وعبر.
يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي: «لم يكن
الإسراء مجرد
حادث فردي بسيط رأى فيه رسول
الله صلى
الله عليه
وسلم الآيات الكبرى، وتجلى له ملكوت السموات،
والأرض مشاهدة، عيانا؛ بل – زيادة إلى ذلك – اشتملت
هذه الرحلة النبوية الغيبية على معان دقيقة كثيرة،
وشارات حكيمة بعيدة المدى فقد ضمت قصة الإسراء،
وأعلنت السورتان الكريمتان اللتان نزلتا في شأنه «الإسراء»
و«النجم»: أن محمدا صلى
الله عليه وسلم هو نبي القبلتين،
وإمام المشرقين والمغربين، ووارث الأنبياء قبله،
وإمام الأجيال بعده، فقد التقت في شخصه، وفي
إسرائه مكة بالقدس، والبيت الحرام بالمسجد
الأقصى، وصلى بالأنبياء خلفه، فكان هذا إيذانا
بعموم رسالته، وخلود إمامته، وإنسانية تعاليمه،
وصلاحيتها لاختلاف المكان والزمان، وأفادت سورة
الإسراء تعيين شخصية النبي صلى
الله عليه وسلم ،
ووصف إمامته، وقيادته، وتحديد مكانة الأمة التي
بعث فيها، وامنت به، وبيان رسالتها ودورها الذي
ستمثله في العالم، ومن بين الشعوب، والأمم».
أولا: قصة
الإسراء والمعراج كما جاءت في بعض الأحاديث
عن أنس بن مالك رضي
الله عنه قال: قال رسول
الله
صلى
الله عليه وسلم: «أتيت بالبراق -وهو دابـة أبيض
طويل، فوق الحمار ودون البغل، يضع حافره عند منتهى
طرفه- قال: فركبته حتى أتيت بيت المقدس، قال:
فربطته بالحلقة؛ التي يربط به الأنبياء. قال: ثم دخلت
المسجد فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت، فجاءني
جبريل عليه السلام بإناء من خمر، وإناء من لبن،
فاخترت اللبن، فقال جبريل: اخترت الفطرة».. فذكر
الحديث [مسلم (162)].
وفي حديث مالك بن صعصعة رضي
الله عنه:
أن نبي
الله صلى
الله عليه وسلم حدثه عن ليلة
أسري به، قال: «بينما أنا في الحطيم -وربما قال
في الحجر- مضطجعا؛ إذ أتاني ات، فقد -قال: وسمعته
يقول: فشق- ما بين هذه إلى هذه، فقلت للجارود
وهو إلى جنبي: ما يعني به؟ قال: من ثغرة نحره [إلى
شعرته وسمعته يقول: من قصه إلى شعرته -فاستخرج
قلبي، ثم أتيت بطست من ذهب مملوءة إيمانا، فغسل
قلبي، ثم حشي، ثم أعيد، ثم أتيت بدابة دون البغل،
وفوق الحمار أبيض- فقال له الجارود: هو البراق
يا أبا حمزة؟! قال: أنس: نعم -يضع خطوه عند
أقصى طرفه، فحملت عليه، فانطلق بي جبريل حتى
أتى السماء الدنيا، فاستفتح فقيل: من هذا؟ قال:
جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل
إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبا به، فنعم المجيء جاء،
ففتح، فلما خلصت؛ فإذا فيها آدم، فقال: هذا
أبوك آدم، فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد السلام،
ثم قال: مرحبا بالابن الصالح، والنبي الصالح. ثم
صعد بي حتى أتى السماء الثانية فاستفتح، قيل:
من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل:
وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به، فنعم المجيء
جاء، ففتح، فلـما خلصت؛ إذا يحيى، وعيسى – وهما
ابنا خالة – قال: هذا يحيى، وعيسى، فسلم عليهما،
فسلمت فردا، ثم قالا: مرحبا بالأخ الصالح والنبي
الصالح. ثم صعد بي إلى السماء الثالثة، فاستفتح،
قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال:
محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به،
فنعم المجيء جاء، ففتح، فلـما خلصت؛ إذا يوسف،
قال: هذا يوسف فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد
ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح، والنبي الصالح.
ثم صعد بي حتى أتى السماء الرابعة، فاستفتح،
قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال:
محمد، قيل: أو قد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل:
مرحبا به، فنعم المجيء جاء، ففتح، فلـما خلصت؛
فإذا إدريس، قال: هذا إدريس فسلم عليه،
فسلمت عليه، فرد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح،
والنبي الصالح، ثم صعد بي حتى أتى السماء الخامسة،
فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل قيل:
ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟
قال: نعم، قيل: مرحبا به، فنعم المجيء جاء، ففتح،
فلـما خلصت؛ فإذا هارون، قال: هذا هارون، فسلم
عليه، فسلمت عليه، فرد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح،
والنبي الصالح، ثم صعد بي حتى أتى السماء
السادسة، فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل،
قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟
قال: نعم، قال: مرحبا به، فنعم المجيء جاء. فلـما
خلصت؛ فإذا موسى، قال: هذا موسى فسلم
عليه، فسلمت عليه، فرد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح،
والنبي الصالح؛ فلـما تجاوزت؛ بكى، قيل له:
ما يبكيك؟ قال: أبكي؛ لأن غلاما بعث بعدي يدخل
الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي.
ثم صعد بي إلى السماء السابعة، فاستفتح
جبريل، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل:
ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟
قال: نعم، قال: مرحبا به، ونعم المجيء جاء،
فلـما خلصت؛ فإذا إبراهيم، قال: هذا أبوك،
فسلم عليه، قال: فسلمت عليه، فرد السلام،
ثم قال: مرحبا بالابن الصالح، والنبي الصالح، ثم
رفعت لي سدرة المنتهى، فإذا نبقها مثل قلال
هجر، وإذا ورقها مثل اذان الفيلة، قال: هذه
سدرة المنتهى، وإذا أربعة أنهار: نهران باطنان،
ونهران ظاهران، فقلت: ما هذان يا جبريل؟!
قال: أما الباطنان؛ فنهران في الجنة، وأما
الظاهران؛ فالنيل والفرات، ثم رفع لي البيت
المعمور، ثم أتيت بإناء من خمر، وإناء من لبن،
وإناء من عسل، فأخذت اللبن، فقال: هي الفطرة؛
التي أنت عليها، وأمتك، ثم فرضت علي الصلاة
خمسين صلاة كل يوم، فرجعت، فمررت على موسى،
قال: بم أمرت؟ قال: أمرت بخمسين صلاة كل يوم.
قال: إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم،
وإني والله! قد جربت الناس قبلك، وعالجت
بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك،
فاسأله التخفيف لأمتك، فرجعت، فوضع عني
عشرا، فرجعت إلى موسى، فقال مثله، فرجعت،
فوضع عني عشرا، فرجعت إلى موسى،
فقال مثله، فرجعت، فوضع عني عشرا،
فرجعت إلى موسى، فقال مثله، فرجعت،
فأمرت بعشر صلوات كل يوم، فرجعت، فقال
مثله، فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم،
فرجعت إلى موسى، فقال: بم أمرت؟ قلت:
أمرت بخمس صلوات كل يوم، قال: إن أمتك
لا تستطيع خمس صلوات كل يوم، وإني قد
جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد
المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف
لأمتك، قال: سألت ربي حتى استحييت، ولكن
أرضى، وأسلم، قال: فلـما جاوزت نادى مناد:
أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي»
[البخاري (3207) ومسلم (164)].
كانت حادثة
الإسراء والمعراج قبل هجرته
– عليه السلام – بسنة، هكذا قال القاضي
عياض في الشفا، ولـما رجع رسول
الله صلى
الله عليه وسلم من رحلته الميمونة؛ أخبر قومه
بذلك، فقال لهم في مجلس حضره
المطعم بن عدي، وعمرو بن هشام، والوليد بن المغيرة:
إني صليت الليلة العشاء في هذا المسجد، وصليت
به الغداة، وأتيت فيما دون ذلك بيت المقدس،
فنشر لي رهط من الأنبياء؛ منهم: إبراهيم،
وموسى وعيسى، وصليت بهم، وكلمتهم،
فقال عمرو بن هشام كالمستهزئ به: صفهم
لي، فقال: أما عيسى: ففوق الربعة، ودون
الطول، عريض الصدر، ظاهر الدم، جعد، أشعر،
تعلوه صهبة، كأنه عروة بن مسعود الثقفي.
وأما موسى: فضخم آدم، طوال، كأنه من رجال
شنوءة، متراكب الأسنان، مقلص الشفة، خارج اللثة،
عابس، وأما إبراهيم: فوالله إنه لأشبه الناس بي،
خلقا، وخلقا. فقالوا: يا محمد! فصف لنا بيت
المقدس، قال: «دخلت ليلا، وخرجت منه ليلا»،
فأتاه جبريل بصورته في جناحه، فجعل يقول:
«باب منه كذا، في موضع كذا، وباب منه كذا، في موضع كذا».
ثم سألوه عن عيرهم، فقال لهم:
«أتيت على عير بني فلان بالروحاء، قد ضلت ناقة
لهم، فانطلقوا في طلبها، فانتهيت إلى
رحالهم، ليس بها منهم أحد، وإذا قدح ماء،
فشربت منه، فاسألوهم عن ذلك» – قالوا: هذه
والإله اية! – «ثم انتهيت إلى عير بني فلان،
فنفرت مني الإبل، وبرك منها جمل أحمر، عليه
جوالق مخطط ببياض، لا أدري أكسر البعير، أم لا؟
فاسألوهم عن ذلك» – قالوا: هذه والإله اية! –
«ثم انتهيت إلى عير بني فلان في التنعيم،
يقدمها جمل أورق، وها هي تطلع عليكم من الثنية»
فقال الوليد بن المغيرة: ساحر، فانطلقوا، فنظروا،
فوجدوا الأمر كما قال، فرموه بالسحر، وقالوا:
صدق الوليد بن المغيرة فيما قال [المطالب العالية
(4/201 – 204، ومجمع الزوائد (1/75 – 76) وابن هشام
في السيرة النبوية (2/11)]. كانت هذه الحادثة
فتنة لبعض الناس، ممن كانوا امنوا، وصدقوا
بالدعوة، فارتدوا، وذهب بعض الناس إلى
أبي بكر الصديق رضي
الله عنه، فقالوا:
هل لك إلى صاحبك؟ يزعم: أنه أسري به الليلة
إلى بيت المقدس! قال: أو قال ذلك؟! قالوا:
نعم! قال: لئن كان قال ذلك لقد صدق! قالوا:
أو تصدقه: أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس،
وجاء قبل أن يصبح؟! قال: نعم، إني لأصدقه فيما
هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء، في غدوة
أو روحة. فلذلك سمي أبو بكر: الصديق [الحاكم (3/62)].
ثانيا: فوائد ودروس وعبر
1- بعد كل محنة منحة، وقد تعرض رسول
الله صلى
الله عليه وسلم لمحن عظيمة، فهذه
قريش قد سدت الطريق في وجه الدعوة في
مكة، وفي ثقيف، وفي قبائل العرب، وأحكمت
الحصار ضد الدعوة ورجالاتها من كل جانب،
وأصبح النبي صلى
الله عليه وسلم في خطر
بعد وفاة عمه أبي طالب أكبر حماته،
ورسول
الله صلى
الله عليه وسلم ماض في
طريقه، صابر لأمر ربه، لا تأخذه في
الله لومة
لائم، ولا حرب محارب، ولا كيد مستهزئ، فقد
ان الأوان للمحنة العظيمة، فجاءت حادثة الإسراء
والمعراج، على قدر من رب العالمين، فيعرج به
من دون الخلائق جميعا، ويكرمه على صبره،
وجهاده، ويلتقي به مباشرة دون رسول،
ولا حجاب، ويطلعه على عوالم الغيب دون
الخلق كافة، ويجمعه مع إخوانه من الرسل
في صعيد واحد، فيكون الإمام، والقدوة لهم،
وهو خاتمهم، وآخرهم صلى
الله عليه وسلم.
2- إن الرسول صلى
الله عليه وسلم كان مقدما
على مرحلة جديدة، مرحلة الهجرة، والانطلاق
لبناء الدولة، يريد
الله تعالى للبنات الأولى في البناء
أن تكون سليمة قوية، متراصة متماسكة، فجعل
الله هذا الاختبار والتمحيص؛ ليخلص الصف من
الضعاف المترددين، والذين في قلوبهم مرض،
ويثبت المؤمنين الأقوياء والخلص؛ الذين لمسوا
عيانا صدق نبيهم بعد أن لمسوه تصديقا،
وشهدوا مدى كرامته على ربه، فأي حظ يحوطهم،
وأي سعد يغمرهم، وهم حول هذا النبي المصطفى،
وقد امنوا به، وقدموا حياتهم فداء له، ولدينهم؟!
كم يترسخ الإيمان في قلوبهم أمام هذا الحدث
الذي تم بعد وعثاء الطائف؟! وبعد دخول مكة
في جوار، وبعد أذى الصبيان، والسفهاء؟!
3- إن شجاعة النبي صلى
الله عليه وسلم العالية،
تتجسد في مواجهته للمشركين بأمر تنكره
عقولهم، ولا تدركه في أول الأمر تصوراتهم،
ولم يمنعه من الجهر به الخوف من مواجهتهم،
وتلقي نكيرهم، واستهزائهم، فضرب بذلك
صلى
الله عليه وسلم لأمته أروع الأمثلة في
الجهر بالحق أمام أهل الباطل، وإن تحزبوا ضد
الحق، وجندوا لحربه كل ما في وسعهم،
وكان من حكمة النبي صلى
الله عليه وسلم
في إقامة الحجة على المشركين أن حدثهم
عن إسرائه إلى بيت المقدس، وأظهر
الله له
علامات تلزم الكفار بالتصديق، وهذه العلامات هي:
وصف النبي صلى
الله عليه وسلم بيت المقدس،
وبعضهم قد سافر إلى الشام، ورأى المسجد
الأقصى، فقد كشف
الله لنبيه صلى
الله عليه
وسلم المسجد الأقصى حتى وصفه للمشركين،
وقد أقروا بصدق الوصف، ومطابقته
للواقع الذي يعرفونه.
إخباره عن العير التي بالروحاء، والبعير الذي ضل،
وما قام به من شرب الماء الذي في القدح.
إخباره عن العير الثانية التي نفرت فيها الإبل،
ووصفه الدقيق لأحد جمالهم.
إخباره عن العير الثالثة التي بالأبواء، ووصفه
الجمل الذي يقدمها، وإخباره بأنها تطلع ذلك
الوقت من ثنية التنعيم، وقد تأكد المشركون،
فوجدوا أن ما أخبرهم به الرسول صلى
الله
عليه وسلم كان صحيحا، فهذه الأدلة الظاهرة
كانت مفحمة لهم، ولا يستطيعون معها أن
يتهموه بالكذب. كانت هذه الرحلـة العظيمة
تربية ربانيـة رفيعة المستوى وأصبح صلى الله
عليه وسلم يرى الأرض كلها، بما فيها من
مخلوقات نقطة صغيرة في ذلك الكون الفسيح،
ثم ما مقام كفار مكة في هذه النقطة؟! إنهم
لا يمثلون إلا جزءا يسيرا جدا من هذا الكون،
فما الذي سيفعلونه تجاه من اصطفاه
الله تعالى
من خلقه، وخصه بتلك الرحلـة العلويـة الميمونـة،
وجمعه بالملائكـة والأنبياء – عليهم السلام –
وأراه السماوات السبع، وسـدرة المنتهى،
والـبيت المعمور، وكلمه جل وعلا؟
4- يظهر إيمان الصديق رضي
الله عنه القوي
في هذا الحدث الجلل، فعندما أخبره الكفار،
قال بلسان الواثق: لئن كان قال ذلك؛ لقد صدق!
ثم قال: إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك،
أصدقه بخبر السماء في غدوة، أو روحة، وبهذا
استحق لقب الصديق، وهذا منتهى الفقه،
واليقين، حيث وازن بين هذا الخبر، ونزول
الوحي من السماء، فبين لهم: أنه إذا كان
غريبا على الإنسان العادي، فإنه في غاية
الإمكان بالنسبة للنبي صلى
الله عليه وسلم.
5- إن الحكمة في شق صدر النبي صلى
الله عليه
وسلم، وملء قلبه إيمانا وحكمة؛ استعدادا للإسراء
تظهر في عدم تأثر جسمه بالشق، وإخراج القلب
مما يؤمنه من جميع المخاوف العادية الأخرى،
ومثل هذه الأمور الخارقة للعادة يجب التسليم
لها دون التعرض لصرفها عن حقيقتها؛ لمقدرة
الله تعالى، التي لا يستحيل عليها شيء.
6- إن شرب رسول
الله صلى
الله عليه وسلم اللبن
حين خير بينه وبين الخمر، وبشارة جبريل عليه السلام:
«هديت للفطرة»، تؤكد: أن هذا الإسلام دين الفطرة
البشرية؛ التي ينسجم معها، فالذي خلق الفطرة
البشرية خلق لها هذا الدين، الذي يلبي نوازعها،
واحتياجاتها، ويحقق طموحاتها، ويكبح جماحها:
﴿فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة
الله التي فطر
الناس عليها لا تبديل لخلق
الله ذلك الدين القيم
ولكن أكثر الناس لا يعلمون﴾ [الروم: 30].
7- كان إسراء النبي صلى
الله عليه وسلم، بالروح و الجسد
يقظة إلى بيت المقدس، وعلى هذا جماهير السلف،
والخلف، ولا يعول على من قال: إن
الإسراء كان بروحه،
وأنه رؤيا منام؛ إذ لو كان
الإسراء مناما؛ لما كانت
فيه اية، ولا معجزة، ولما استبعده الكفار، ولا كذبوه؛
إذ مثل هذا من المنامات لا ينكر، ثم إن في قوله
تعالى: ﴿سبحان الذي أسرى بعبده﴾، والمقصود بعبده:
سيدنا محمد صلى
الله عليه وسلم، وكلمة «بعبده»
تشمل روحه، وجسده.
8- إن صلاة النبي صلى
الله عليه وسلم بالأنبياء
دليل على أنهم سلموا له القيادة، والريادة، وأن
شريعة الإسلام نسخت الشرائع السابقة، وأنه وسع
أتباع هؤلاء الأنبياء ما وسع أنبياءهم، أن يسلموا
القيادة لهذا الرسول صلى
الله عليه وسلم ،
ولرسالته التي لا يأتيها الباطل من بين يديها،
ولا من خلفها، إن على الذين يعقدون مؤتمرات
التقارب بين الأديان أن يدركوا هذه الحقيقة،
ويدعوا إليها، وهي ضرورة الانخلاع من الديانات
المنحرفة، والإيمان بهذا الرسول صلى
الله عليه
وسلم ورسالته، وعليهم أن يدركوا حقيقة هذه
الدعوات المشبوهة، التي تخدم وضعا من الأوضاع،
أو نظاما من الأنظمة الجاهلية، وأي تقريب بين
عقيدة منحرفة تعتقد: أن
الله هو المسيح، وأن
المسيح ابن الله، وأن
الله ثالث ثلاثة، أو بين من
يعتقد: أن عزيرا ابن الله، ويحرف كلام الله، وبين
من يعتقد: أن
الله واحد لا شريك له، ولا والد،
ولا ولد، ولا زوجة له – وهو عبث من القول