تـــبــاريـــح :

قد علمتَ يا أخي أبا خالد علم يقين أن مرد الدنيا إلى زوال ونعيمها في اضمحلال فبحثتَ عن نعيم لا يزول ولذة لا تنقطع فلم تجدهما إلا في جوار أرحم الراحمين فنزعتَ عنكَ لباس الخنوع ومزقتَ رداء الوهن وانتفضتَ انتفاضة الهزبر فغذذتَ السير وحثثتَ الخطى لتحقيق أمنيتكَ الكبرى في رضا الله في ساحات الوغى وأنتَ في الحادية والعشرين من العمر غير آسف على نعيم يزول ولذة تنقطع واستقبلتَ رصاص الأعداء بصدر مكشوف وقلب متلهف إلى جوار الله وعندما استعمر الحنين قلبك إلى جوار ربك خرجتَ أنتَ وثلاثة من رفاقك وقبل خروجكَ شم أحدهم منكَ رائحة المسك فعلم أن خروجك بلا أوبة وهجمتم على أحد معاقل العدو فجندلتم من جندلتم ورحلتَ أنت وأحد الذين معك إلى حيث النعيم الأبدي بإذن الله فلترو شجرة الإسلام من دمائك ودماء الشهداء الزكية لتورق أفانينها وتبسق أغصانها فجسدكَ الطاهر لم يسقط على الأرض بل تلقفته أحضان الحور بلهفة وشوق بإذن الله وروحكَ الطاهرة التي هجرتْ نعيم الدنيا وملذاتها صعدتْ إلى من اشتراها ليوفيها الثمن فطوبى لك بإذن الله أنتَ ومن اصطفاهم الله إلى جواره .
نحن يا أخي ما زلنا على ما كنا عليه من الركون للدنيا والانغماس بملذاتها وكأننا خالدين مخلدون فيها أبد الآبدين وأبطال الركب يتهاوون واحداً إثر واحد ويلحقون بركب محمد صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وحمزة وخالد رضي الله عنهم وغيرهم من أبطال الإسلام واليوم هاهو أحد أبناء الركب ابن عمك الشاب عاصم خاض بحر الردى وقارع المنايا ونازل الخطوب غير هياب ولا وجل حاملاً روحه على كفه مؤثراً رضا الله على متع الدنيا أجمع حتى لحق بركب الشهداء نحسبه كذلك والله حسيبه فهنيئاً له والله ما وعد به من الأجر الكبير والمثوبة العظيمة .
لترقد يا ابن العم في قبركَ وحيداً تلتحف التراب وتسامر الظلمة لا حبيب يبدد وحشتك ولا قريب يؤنس وحدتك كحال أخي عبدالله بل الله بالرحمة ثراه لا يجتاز بكما قريب يسلم عليكما ولا يقف بجانب قبريكما حبيب يدعو لكما .
أحباب قلبي قد والله شاخ قلمي وضعف قلبي عن الاحتمال فمن أب إلى أخ إلى قريب إلى أحباء اختطفتهم يد الردى فأشجتني وأنهكتٍْ جسدي وعجلتْ بشيخوخة قلبي .

مساحة قلم معجب بهذا

أحقاًّ انغلق الباب ؟
أحقاًّ رحل بلا إياب ؟
أحقاًّ وارا القمر التراب ؟
نعم كل هذا حصل ولن تراه إلى يوم الحساب فاصبر فإنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب .
أبي لن أصف حالي عندما دخلت إلى المغسلة ورأيتك مسجى ولن أصف حالي كذلك عندما رأيتك محمولاً فوق الأعناق وعندما واروك القبر وأهالوا عليك التراب فهذا مالا أستطيع وصفه لأنه فوق الاحتمال .
أبتاه سآتي إلى المسجد ولن أراك كما كنت فيما مضى متكئاً على الروضة تقرأ في الذكر الحكيم أو ساجداً تناجي ربك أو رافعاً أكفك تطلب ما عند مولاك من خير ورحمة ولن أقبل رأسك بعد الصلاة وأمازحك قليلاً فتضحك وتقول حفظك الله يا بني ولا فجعني بك وعجل لك بما سألته من خير ورزق ورحمة .
سآتي إلى البيت يا أبي ولن أراك تحتسي قهوة المساء ولن تعرضها علي كما كنت تفعل عادة لأنك رحلت رحيلاً أبدياًّ لا أوبة لك منه .
سآتي وسأرى مكانك خالياً لا أثر لك فيه إلا بقايا من ذكرى تؤجج شوقي إليك .
سآتي ولن أسمع كلمة أهلاً بك يابني أين أنت ولماذا تأخرت (وأنا الذي كنت أسامرك وأتناول العشاء معك) .
أبتاه سيبكيك أصحابك المقربون أبو أحمد وأبو خالد كما بكيت من قبل ابنك وفلذة كبدك عبدالله وصديق عمرك محمد أبو رميان وسيبكيك الحرم الذي كثيراً ما وطئته قدماك رغم كبر سنك رغبة في ثواب الله وطمعاً بنيل رحمته .
ستبكيك روضة خريم وصعافيق والصمان ووادي الغضا ونقرة غراب التي كنت ترتادها بصحبة أخي علي والتي كثيراً ماطلبت مني الذهاب إليها معكما وليتني امتثلت أمرك فنحن لا نندم ولا نشعر بقيمة من نحب إلا بعد فقده .
ستبكيك صلة الرحم التي كنت حريصاً عليها وصيام الإثنين والخميس وسلامة صدرك من الحقد والضغينة والصبر على اللأواء والمحن وسقم قلبك الذي جاوز الثلاثين عاماً والذي اكتشفته أنا بطريق الصدفة فطلبت مني ألا أحدث به أحداً ما دمت على قيد الحياة .
سأفتقدك يا أبي وسأفتقد دعاءك الذي لن يبرح أذني ما حييت وفقك الله وأسعدك ورزقك رزقاً يغنيك ولا يبطرك وكذلك قصصك عن حياتك وحياة أسلافك التي تتحفني بها بين آن وآن والتي ما زلت أحفظها جميعاً .
باختصار سأفتقد أبي محمد سليمان التويجري (أبو سليمان) رحمه الله وأسكنه الفردوس الأعلى برحمته ولن يعيده إلي حنيني ورثائي .
أبتاه وخالقي أني أكتب ما أكتب وأنا أغالب دمعي فاعذرني إذْ لم أرثك بالشعر فقد أردت أن أنطلق بلا حدود وأكتب ما يجيش بصدري من لوعة فقدك بلا قيد يقيدني من وزن أو قافية .
أبتاه لم أكن أريد النطق بهذه الكلمة مهما طال بي العمر وامتدت الحياة ولكني أقولها الآن مرغماً لاطائعاً :
رحمك الله يا أبي
رحمك الله يا أبي
رحمك الله يا أبي

مساحة قلم معجب بهذا

انتقل إلى رحمة الله أخي العزيز خالد المطلق رحمه الله فكانتْ هذه الخاطرة التي كتبتْ على عجالة في لحظة شجنٍ شديدةٍ :

عرفتُ أخي وصديقي خالداً رحمه الله في أحد المنتديات وكنتُ حريصاً على رؤيته وعندما رأيته ازددتُ إعجاباً بأخلاقه وصفاته النادرة في هذا الزمن .
التقيتُ به أول مرة في أحد مقاهي القهوة في إحدى ليالي العشر الأواخر من رمضان عام 1438هــ , أتيتُ قبيل الموعد بقليل وعندما أتى التفتَ يمنة ويسرة ثم اتصل فرددتُ عليه فنظر إلي ثم ابتسم وأقبل وسلم ثم جلس فسألته عن سبب كثرة التفاته فقال : كنتُ أبحث عن شيخٍ أنزع أشيب يرتدي نظارات .
عجبتُ وسألته من هذا الشخص ؟
فابتسم رحمه الله وقال : خلتُك بهذه الصفات ولم أظن أني سأرى شابّاً في منتصف عقده الثالث .
تحدثنا وتندرنا وطال بنا الحديث كاشفاً لي عن رجاحة عقله وسعة ثقافته ومعرفته بالناس .
رأيته بعدها مرتين آخرها في شهر شوال ولم يدر بخلدي أن هذه آخر مرة أراه بها في هذه الدنيا الفانية فرحمه الله وغفر له .
هكذا يرحل الأحباب دون سابق إنذار مخلفين بقلوب أحبابهم أُتناً لا يخبو سعيرها فارحل أيها التقي نقي السريرة ميمون النقيبة محمود السيرة مرضي الصحبة مبكي الرحيل مفقود المكان باقي الذكر .
ارحل أيها التقي النقي وخلِّف في قلوب أحبابك لوعة تُمزق نياط قلوبهم وتُفيض مدامع عيونهم وتَبعث أنينهم وخنينهم وتَرفع أكفهم إلى الرحمن الرحيم تسأله لك العفو والغفران وأعالي الجنان فرضي الله عنك وأسكنك الفردوس الأعلى وآمنك يوم الفزع الأكبر وأعطاك كتابك بيمينك ورزق أهلك وأحبابك الصبر والسلوان فالخطب جلل والفقد عظيم .
اللهم يا رحمن يا رحيم اغفر لأخي خالد وأنزل عليه من شآبيب رحمتك ما ينال بها رضاك وترفعه بها مع الصالحين .
اللهم لقِّه الأمن والبشرى والكرامة والزلفى وأفسح له في قبره مد نظره واجعله روضة من رياض الجنة يا رحمن .

مساحة قلم معجب بهذا

قرأت مقالاً لفتاة تسخر بالفتيات الملتزمات بكلمات تمجها الأذواق وتأباها الفطر السليمة فرددت عليها بهذه الخاطرة :
أيتها الفتاة أولاً أهنئكِ على هذا الفكر النير والعقل الثاقب الذي حباكِ الله به والذي لو كنتِ في زمن اليونان لا اتخذوك آلهة مع آلهتهم ليتبركوا بهذا العقل الذي ندر وجوده منذ حقب متطاولة .
فليبارك لنا العالم أجمع وجود هذا العقل بيننا والذي سيجعلنا في مصاف أعظم الأمم وسيرتقي بنا لمجد وسؤدد لم نكن نحلم به ولم يخطر لنا على بال .
ثانياً : لقد كتبتِ هذه الخاطرة بأسلوب لا يجارا وبلاغة لا تبارا فهنيئاً لك هذا .
والآن لأدخل في صلب الموضوع مباشرة لأقول :
لم أمقت في حياتي شيئاً أشد مقتاً من الفتاة المحتشمة فأنا لا أحب أن أراها ترتدي العباءة بل أحب أن أراها عارية كيوم ولدت تتكسر في مشيتها وتغمز بعينيها يمنة ويسرة وتزاحم الرجال في الأسواق وتعرض نفسها في المتاجر كالسلع الرخيصة وتهبط بعد العز من عرش الملوكية إلى ذل العبودية وتنحدر لمستوى دنيء كالذي وصلت له بنت الغرب هذا ما أعشقه وأصبو إليه .
سبحان الله أيحتاج النهار إلى دليل وهل هناك من يعاف الرياض النضرة ويعشق الحياض القذرة .
والذي لا إله إلا هو لأن تنطبق السماء على الأرض ونحن بينهما قد تحشرجت أنفاسنا في صدورنا من الألم أخف علينا وأهون ألف مرة من أن نرى فتياتنا وقد انحدرن لتلك الهوّة السحيقة .
والذي لا إله إلا هو لو ابتليتِ برجل سكير عربيد لضاقت عليك الأرض بما رحبت ولرفعتِ أكف الذل والضراعة في الليل البهيم عند نزول الرحمن الرحيم للسماء الدنيا تطلبينه وتتضرعين إليه أن يمن على زوجك بالهداية وينتشله من الغواية .
أخيراً : وربي لولا هؤلاء المحافظون على شرائع الله لحاق بنا العذاب والخسف والمسخ فاللهم لك الحمد مولاي على نعمة الإسلام وعلى شرعك الذي أمرنا بالعفة والحشمة لك الحمد والشكر كما يليق بجلالك وكمالك .
رباه لا تؤاخذني بما بدر مني من سخرية وتهكم فأنت تعلم جل جلالك أنها نفثة مصدور فاللهم غفراً .

ما أقبح حياتي وأسمج عيشي وأضعف حيلتي وأنا أرى الظلم يحيط بي إحاطة السوار بالمعصم ممن كنت أعده ملاذاً لي من النائبات وملجأً عند الشدائد .
أبتاه بل آسري بل قاتلي أتشمئز نفسك من الجاهليين الذين يئدون بناتهم وأنت تفعل بي أشد منهم وأدهى بمنعي من الزواج ؟
والذي نفسي بيده لوأدي أحب إلي من هذا العذاب الذي أتجرعه في كل لحظة من لحظات عمري .
ألا تعلم ماذا يعني الزواج والإنجاب للفتاة ؟
لا حاجة لإجابتك لأني أعلمها مسبقاً ولا حاجة لإجابتي لأنك وحش بصورة إنسان مجرد من العواطف والمشاعر .
والدي عفواً بل وائدي أتذكر تلك الليلة عندما ولجت إلى غرفتي ووجدتني أناغي عروستي وأدثرها وهي جماد لا تشعر ببعض الألحفة عن البرد فابتسمت وقلت لي عندما تكبرين ستضمين طفلتكِ حقيقة وتشعرين بعاطفة الأمومة .
يا ليتني مت في تلك الساعة وأنا أضم عروستي ولم أعش إلى هذا اليوم الذي أموت فيه أكثر من مرة خشية من شبح العنوسة .
أواه منك أيها الظالم هل أتيت بي إلى الدنيا من أجل حفنة من المال تأخذها مني نهاية كل شهر أم من أجل أن تبيعني مثل سقط المتاع إلى هرمٍ على مشارف قبره سعياً خلف ثروته التي ستؤول إلى ورثته .
يا قاتل سعادتي ووائد أمومتي صبراً صبراً إنما هي أيام قلائل وتجد مغبَّة ظلمك عندما نجثوا أمام العدل الحكم الذي سيقتص لي منك .

اتصلت علي إحدى الفتيات وقد تهدج صوتها وتغيرت نبرته تشتكي حالها مع أخيها الذي أهانها بسبب رفعها صوتها على زوجته وأثناء شكواها انهمرت دموعها دموع القهر والظلم التي طالما انهمرت حزناً على حال أخيها ورثاءً لما دهاه .
أي أخي رفقاً بمن شاطرتك رحم أمك وقاسمتك عيشك وحزنك وواستك بكلمات العطف والحنان أبعدما اشتد عودك وصلبت قناتك وحينما أصبحت هي بحاجة لسند تستند عليه وملاذٍ تلجأ إليه تطاولت عليها وأسأت إليها فانطبق عليك قول القائل :

أَسَدٌ عليّ وَفِي الحُرُوبِ نَعَامَةٌ
فَتْخَاءَ تَنْفُرُ من صَفِيرِ الصَّافِرِ

سبحان الله أي يد تمتد للطم تلك الأخت الحنون التي تفتدي أخاها بمهجته إن ألمت به الحوادث أو نزلت به النوازل .
والله لو كان ثمن هذه اللطمة قبلة طويلة الأجل من الزوجة أو نشوة تسري بجسده لا تفارقه إلا بفراق روحه أو حصناً وملاذاً له من النكبات والمصائب لقلت بأنه مخطيء ولا حق له فيما فعل ولا عذر يسيغ له لطمها .
أنا لا أقول بأن تأخذ الزوجة من سعة إلى ضيق ومن رغد إلى شظف ومن عز إلى ذل ومن فرح إلى ترح لا وربي فللزوجة ثقلها وقدرها ولكن لا تمتهن كرامة أختك لأجل زوجتك فللزوجة حق وللأخت حقوق لا يحصيها العد .
ولكن :
ثق ثقةً تامة أن أختك هي التي يرفرف قلبها عليك وتفرح لفرحك وتشجى لشجنك وإن اقترنت بحياة رجل آخر أما زوجتك فإن حدث لك مكروه نسيت ودك وخانت عهدك واقترنت بحياة رجل آخر وأعطته ما أعطتك من عهود الحب ومواثيق الغرام فأختك أختك .
أي أختاه لا أعلم هل ستقرأين هذه الرسالة أم لا ولكنني أقول بأن أخاك قد حاد عن الطريق وجانبه التوفيق بهذه الفعلة الشنعاء هذا ما أعتقده وأؤمن به والحكم لكم فيما قرأتم .

أيها القلب رويدك رويدك قد آن أن تنزع عنك حجاب الغواية وترتدي لباس الهداية .
أيها القلب لقد مضى الركب وسار الصحب وأنت قابع في جاهليتك الجهلاء تتخبط في الظلماء خبط عشواء أفما آن لك أن تفيق وتمتطي صهوة جوادك قبل أن يمضي العمر وينتهي وقت الإفاقة وتندم حين لا ينفع الندم .
أيها القلب لقد مضى زمن الصدق والبر وأتى زمان الكذب والغدر فانزع عنك جلد الضأن والبس جلد النمر على قلب الذئب واجعل نصب عينيك قول ابن دريد الأزدي :

منْ ظلمَ النَّاسَ تحامَوا ظلمهُ
وعزَّ عنهمْ جانباهُ واحتمى

وهمْ لمنْ لانَ لهـمْ جانبـهُ
أظلمُ من حيَّاتِ أنباتِ السَّفا
لقد مكثت على هذا المنوال أعواماً طوال تقاسي الشدائد والأهوال فما الذي جنيته طيلة هذه الأعوام ؟ .
لقد أحببت فصدقت وخدمت وضحيت وآثرت الناس على نفسك فما النتيجة ؟ .
لقد طارت الطيور بأرزاقها وانفردت السباع بطرائدها وأنت ما زلت في مكانك تراوح فأفق ما دام بالعمر متسع فقد تتابعت عليك المصائب وتوالت النوائب وأنت سادر بغيك غارق بظلالك متعلق بآمالك فأفق إني لك من الناصحين ودع هذه الآمال الكاذبة والأماني الباطلة .

قال لي أحد السذج : أما زالت الدنيا تلعب بك ذات اليمين وذات الشمال ؟
اعلم يا أبا بسام أنك ستعيش آلاماً وأحزاناً لو وضعت على رضوى لساخ في الأرض من شدتها .
ضحكت أشد الضحك على قلة عقله وضعف يقينه وقلت : أيها الساذج القميء والمأفون الدنيء والذي رفع السماء بلا عمد ترى واستوى على العرش وهو شديد القوى لو كنت أعلم أنك تعلم مقدار ذرة مما كتب في اللوح المحفوظ لا اتخذتك إلهاً أعبده وألتجيء إليه في الملمات والنوائب ولكن الذي أعلمه أنك سافل تافه أصلك من طين ومنشؤك مشيجة من ماءين لا قدرة لك على علم ما سيحصل لك في الغد من البلاء لتدفعه عن نفسك فكيف تتقوّل على الله ما لا تعلم وتتنبأ بعلم اختصه الله لنفسه فلم يطلع عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل .
أين أنت من قول الله عز وجل : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) .
ومن قوله جل جلاله : (إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ) .
وقوله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) .
وقوله تعالى : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) .
وقول النبي صلى الله عليه وسلم (لَوْ عَدَلَتِ الدُّنْيَا عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا أَعْطَى كَافِرًا مِنْهَا شَيْئًا) .
وقول الشاعر :

ما بينَ غمْضَةِ عيْنٍ و انْتِبَاهَتِها
يُغَيّرِ اللهُ مِنْ حالٍ إلـى حـالِ

أخيراً سنرى لمن التمكين والعز والسؤدد أهو للذي اتكل على الله الذي وسعت رحمته كل شيء وبيده خزائن السموات والأرض وهو على كل شيء قادر أم لك أنت يا من يعلم الله نيتك وخبيئة نفسك .

فجروها عنصرية مقيتة وأوقدوا نارها كل آن كي لا تخمد واجعلوها دأب أطفالكم وديدنهم فنحن بأمس الحاجة إليها في زمن الفرقة والضعف وتكالب الأعداء علينا .
سموا أبناءكم بأسماء خاصة بهم واجعلوهم يتنفسون هواء لا يتنفسه غيرهم واجعلوا أرضكم حمى محرم على غيركم باختصار اقطنوا بكوكب خاص بكم لأنكم اشتملتم بالعز والسؤدد ولأن الله خلقكم من مسك وخلق غيركم من تراب ونزهكم وطهركم من البلايا التي ابتلى بها بني أدم وكذلك لأنكم ستأتون يوم القيامة آمنين من الفزع وتسلمون كتبكم بأيمانكم يا من تشربتم العنصرية المقيتة في كل مكان وزمان .
بربكم متى نصحوا من سباتنا ونرى الخطر المحدق فينا ونعلم أننا نخدم أعداءنا من حيث لا نشعر وندرك أننا أهل ملة واحدة ومذهب واحد ؟!

أتى إلي مُرْبدّ الوجه وجلس بجانبي ثم قال : تباًّ وسحقاً لتلك الأفعى اللعينة .
لزمت الصمت لأني لا أعلم المغزى من حديثه .
احتبى وصمت فترة ثم رفع رأسه ونظر إلي وقال : أبا بسام أتصدق أن أبي طردني من المنزل بسبب زوجته .
صمت ولم أنبس ببنت شفة .
أكمل كلامه قائلاً : أنا فلذة كبده يطردني يطردني يطردني ولأجل من ؟
لأجل تلك العجوز القميئة التي لاهم لها إلا إرهاقه بكثرة الطلبات وتحريضه علي في الخفاء .
صمت قليلاً ثم تبسم وقال : ما أسذجها تتكلم بالمثاليات بحضوري وهي أبعد ماتكون عنها وفي الخفاء تدبر لي المكائد وإني وخالقي لا أرى فيها إلا إبليس اللعين لولا اختلاف الصورة فكيف طاوع أبي إبليس (زوجة أبيه) والله حذرنا من اتباعه.
رددت عليه قائلاً : ربما أن أباك غضب لأنك رفعت صوتك على من هو أكبر سناًّ منك وأراد بذلك تربيتك وإن كان أخطأ في الطريقة فيظل أباك الذي له الحق .
نظر إلي باستغراب فقلت له : لو أتاك نعي أبيك في هذه اللحظة ما أنت فاعل .
لزم الصمت وظهرت عليه علامات التأثر فقلت له : اذهب إلى أبيك الآن وقبل رأسه واعتذر إليه ودع تلك الحقيرة تحيك لك الدسائس فإن الله لها بالمرصاد ووالذي نفسي بيده ليقرن الله عينك بالنصر عليها إن كانت لك ظالمة فاصبر واحتسب ولا تعرها أي اهتمام فهي إن فكرت واجتهدت في التفكير لا ترى أبعد من أنفها فدعها تفعل ما تشاء فهي لا ترى أباك الذي هو زوجها والذي يكد ويكدح لتوفير سبل الراحة لها وينطبق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم : (لو كنتُ آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرتُ المرأة أن تسجد لزوجها) .
والذي ينطبق عليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم الآخر الذي يقول فيه : (إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحفظت فرجها وأطاعت زوجها قيل لها ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئتِ) .
رغم كل هذا فتلك الحقيرة لاترى فيه إلا مطية لتحقيق مآربها وقضاء حوائجها وإشباع غريزتها وإلا فهو كغيره من الرجال لا تأبه به ولا تبالي ومثل هذه حرام أن تحمل ذلك الاسم المقدس (أم) .
ذهب وهو يقول تباًّ لتلك الأفعى اللعينة تباًّ لتلك الأفعى اللعينة تباًّ لتلك الأفعى اللعينة .
فرددت خلفه : تباًّ لكل امرأة أب لا تراقب الله ولا تخشاه وتحرض زوجها في الخفاء على أبنائه .
سحقاً لها وتباًّ وأذاقها الله ويلات الدنيا وفجائعها قبل عذاب الآخرة .
أيها الأب رويداً رويداً فهذه المرأة ليست من صلب أبيك ولا من رحم أمك حتى ترأف بحالك بل هي كغيرها من نساء الدنيا لا تمت إليك بصلة إلا بعقد القران على شرع الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وإن أصابك مكروه لا قدر الله خلعتك إن كانت شابة وذهبت لرجل غيرك وإن كانت عجوزاً أقامت معك على مضض إلا من هدى الله وقليل ما هم فارأف بأبنائك واعطف عليهم كي يبروك ويقوموا بما أوجبه الله لك عليهم حق القيام وإن ضيعتهم ولم تلبي مطالبهم وآثرت زوجتك عليهم فلا تلمهم إن تركوك في كبرك وأنت في أمس الحاجة إلى برهم وعطفهم .