( وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا ) أَيْ : مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ وَأَصْنَافِ الْمَخْلُوقَاتِ " انتهى من "تفسير ابن كثير" (5/ 97).
وينظر : "تفسير السعدي" (ص 463) .
ثانيا :
ينبغي أن يُعْلم : أن الله جل جلاله : هو المتفرد باختيار ما يختاره ، واصطفاء ما يصطفيه ، كما أنه المتفرد بخلق ذلك كله ، سواء بدا لنا حكمته في خلقه واصطفائه ، أو لم يبد ؛ فلله سبحانه الحكمة البالغة في خلقه وتدبيره .
ثالثا :
من حكمة الله جل جلاله في تكريم بني آدم ، والله أعلم : أنهم المحل الذي قبل أمانة الرحمن ، والتي هي تكليفه وامتثاله للأمر والنهي باختياره ؛ فبعد أن عرضها على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها ، وحملها الإنسان ؛ أهله الله جل جلاله لهذا المقام السني ، فاجتباه ، واختاره واصطفاه ، وفضله على كثير ممن خلقه سواه .
ثم كان من مقتضى ذلك : أن فيهم صفوة خلقه ، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، فيهم العلماء العاملون ، وفيهم المجاهدون ، وفيهم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ، وفيهم القائمون بأمر الله ، والدعوة إليه .
قال ابن القيم رحمه الله :
" خلق الله سبحانه عباده المؤمنين وخلق كل شيء لأجلهم، كما قال تعالى: ( أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سخَّرَ لَكُمْ مَا فِى السَّمَوَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ وَأَسْبَغ َ عَلَيْكُمْ نِعمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً )
وكرمهم وفضلهم على كثير ممن خلق ، فقال : ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَم وحملناهم فِى الْبِرِّ وَالْبَحْرِ وَرزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً )
وقال لصالحيهم وصفوتهم: ( إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآل إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِين )
وقال لموسى : ( وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ) ، واتخذ منهم الخليلين ، والخلة أعلى درجات المحبة ...
والله سبحانه لا يصطفى لنفسه إلا أعز الأشياء وأَشْرَفَهَا وأعظمها قيمة .
وإذا كان قد اختار العبد لنفسه ، وارتضاه لمعرفته ومحبته ، وبنى له داراً في جواره وقربه ، وجعل ملائكته خدَمه يسعون في مصالحه في يقظته ومنامه وحياته وموته ، ثم إنَّ العبد أبق عن سيده ومالكه ، معرضاً عن رضاه ، ثم لم يكفه ذلك حتى خامر عليه ، وصالح عدوه ووالاه من دونه ، وصار من جنده مؤثراً لمرضاته على مرضاة وليه ومالكه ، فقد باع نفسه- التي اشتراها منه إلهه ومالكه وجعل ثمنها جنته والنظر إلى وجهه- من عدوه وأبغض خلقه إليه ، واستبدل غضبه برضاه ولعنته برحمته ومحبته .
فأي مقت خلى هذا المخدوع عن نفسه لم يتعرض له من ربه ؟ قال تعالى : ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْملائِكَةِ اسْجُدُوا لآدم فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنْ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُو، بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدلاً ) " انتهى من "طريق الهجرتين" (ص 240-241) .
رابعا :
تكريم جنس بني آدم إنما هو على كثير ممن خلق الله ، وأفادت لفظة ( كثير ) أن هناك أجناسا لا يمكن القطع بتفضيل جنس الآدميين عليهم ، كالملائكة مثلا ، إذ لا يمكن القول بأن الآدمي الكافر أفضل عند الله من الملائكة .
فالملائكة أفضل من الكفار من بني آدم بلا شك ، وكذا مؤمنو الجن أفضل من كفار بني آدم وفساقهم .
فتحصل من ذلك :
أن المرد في معرفة التفضيل إنما هو للشرع ، لا للعقل ، وما يقضي به .
ثم لا يظهر من التكلف في تشقيق السؤال في ذلك ثمرة ؛ بل على العبد أن يعلم أن لربه حكمة بالغة في خلقه ، كما له الحكمة البالغة في أمره ونهيه ، وأن يجعل همته مصروفة لمواقع رضى ربه منه ، فينشغل بها عما سواها .
بارك الله فيــــــــــك
وجعل ما كتبت في ميزان حسناتك يوم القيامة .
أنار الله قلبك ودربك ورزقك ... عفوه وحلاوة حبه ..
ورفع الله قدرك في أعلى عليين ...
حفظك المولى ورعاك وسدد بالخير خطاك ..
احتــــرامي وتــقديري...