هناك أناس لا يعيشون في متن
الحياة وفي معتركها وصميمها،
بل على الهامش، تواروا في الظل،
مراكبهم تفتقد بوصلة النجاح،
تتقاذفهم الأمواج، تحركهم الرياح
أنّى اشتهت في بحر الحياة الهائج..
هؤلاء الناس يسيرون في الحياة
بلا دليل حياتي إرشادي.. يعيشون
وفق أمزجتهم وأهوائهم.. بل
يعيشون ببعض أنفسهم..
وفي تصوري أنهم يجهلون عنها
الكثير، وقد يكون هذا ليس
خطأهم وإنما خطأ البيت وقبل
ذلك المدرسة التي لم توزع عليهم
منهجًا أو دليلاً يكشف لهم القدرات
والمواهب والطبائع التي تختزنها
أنفسهم وتحتوي عليها أجسامهم..
والأمل كبير في إمكانية التفتيش
عنها وتنميتها وتطويرها واكتسابها،
لكن قد يأتي إلينا من يقول: أنت تطلب
المستحيل، فماذا تريد منا أن نفعل؟..
يا أخي هذا قدرنا. فنجيبه بأن هذا
صحيح قدرك، لكن الله جل وعلا أمرنا
بفعل الأسباب *}فَأَتْبَعَ سَبَبًا*{ وقوله
لموسى وهارون *}قَالَ قَدْ أُجِيبَت
دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا..*{ الآية.
وقول الرسول صلى الله عليه
وسلم للصحابي الذي طلب منه
أن يدعو له بأن يرافقه في الجنة
«أعني على نفسك بكثرة السجود»،
فالدين يأمرنا بفعل الأسباب ويأمرنا
بالعمل وينبذ الكسل.. إذن لا تسوّف
ولا تتعلل بالقدر *}قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ*{،
فأنت المسؤول عن شخصك وكيانك
وليس القدر، فما ذنب القدر عندما
يصورك الله ويركبك *}فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ*{
ويخاطبك في الآيات الأخرى بأن تتبصَّر
في نفسك *}وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ*{،
ثم تعيش على هامش الحياة ولا تستخدم
إلا جزءًا بسيطًا من خلقك العجيب..
أنت خلق عجيب متفرد، لك وزن ولك قيمة،
حُمِّلت الأمانة وجعلك خليفته في أرضه،
وسخر لك كل ما في هذا الكون،
وربنا لا يريد منك رزقًا ولا أن تطعمه،
وإنما يريد العبادة الخالصة له..
وأيضًا لا يريد منك أن تكون كلًّا وعالة
على الناس، وإنما يريد منك أن
تنتشر في الأرض وتبتغي من فضله،
أي تفعل الأسباب حتى تحقق
الهدف وتحصل على ما قدر لك..
وربنا كذلك اختزن فيك طاقات
وقدرات وملأك بالمواهب، فما
عليك إلا أن تفعل الأسباب
وتفتش عنها فتبرزها وتفتقها،
وتنفع بها دينك ونفسك وأمتك.
طيّب، كيف أعرف نفسي وأفتش
عن مواهبي؟ سؤال لا شك أنه
يتكرر عند معظم من يقرأ هذه
المقالة، والإجابة في تصوري
تكمن في الآتي:
• أن تجلس مع نفسك وتستعرض
نقاط القوة والضعف فيها،
وأن تستعرض إمكانياتك وقدراتك
وتنظر فيما يميزك ويعطي
صورة واضحة عن شخصيتك.
• أن تنظر فيما يميزك، هل أنت
تتميز بقوة الحافظة أم بسرعة
البديهة أم أنك تميل إلى الشعر
وتحب الشعر، وعندك بدايات ومحاولات
لم تنضج بعد في القصيدة
وقول الشعر، أم أنك تميل إلى الكتابة
وتمارسها وتكثر من قراءة المقالات
الجيدة للكُتّاب الجيدين، أم أنك
تميل إلى الكمبيوتر وتحاول أن تبدع
في برامجه وتصاميمه.. إلخ من
البدايات التي لم تكشف عنها
ولم تنضج بعد.
دعنا الآن نفتش عن موهبة
واحدة فيك، ولنقل إنك تميل
إلى الشعر وتحب الشعر، وتريد أن
تقول شعرًا، لكنك تتعثر في البداية
وتجد صعوبة في وزن القصيدة
وإيقاع كلماتها ولملمة أبياتها..
وهنا لا بد أن تنظر في نفسك هل
أنت تمتلك موهبة الشعر، وهي
سرعة البديهة وخصوبة الخيال
وتوقد الذهن، أم أنك لا تمتلكها
لكنك تحب الشعر وتريد أن تقول شعرًا؟..
إذا كنت من الصنف الأول أصحاب الملكة
والموهبة فالأمر جد يسير وبسيط
بالنسبة لك، فما عليك إلا أن تنمي
هذه الملكة وتفتق هذه الموهبة،
وعندما أقول تنمي وتفتق فأنا
أقصد أن تحفظ ما استطعت من
الأشعار وأن تقرأ ما استطعت من
كتب اللغة والأدب وسير الشعراء
والأدباء، أي أن تؤصل نفسك لغويًا
وأدبيًا فتفهم اللغة وقواعدها
ومعانيها وتصاريف كلماتها، وأيضًا
لا بد من التعرف على علم العروض
وفهم أوزانه وإيقاعاته ومعرفة
(تفاعيل) بحوره.. لكن انتبه لنقطة
مهمة يتعثر فيها معظم الشعراء
غير الموهوبين وهي أنه يخضع
قصيدته للعروض فيختار البحر
ويجهز الأوزان قبل أن تولد القصيدة،
وهذا خطأ كبير؛ فالشعر ليس صناعة
وأوزانًا عروضية، الشعر موهبة ومشاعر
جياشة تترجم على الورق، وعندما
تولد القصيدة تبدأ عملية حضانة
المولود واستعراض البحور والنظر
في أوزان كلمات القصيدة وأصوات
حروفها وإيقاعاتها.. هذا هو الأصل
لأن الخليل بن أحمد الفراهيدي اكتشف
علم العروض واستخلصه من مجموع
القصائد والأشعار العربية، فالقصائد
العربية معظمها لا تخرج عن إيقاع
ووزن البحور العروضية التي اختارها
وهي البحر البسيط.. الكامل.. الوافر..
المتقارب.. إلخ، أما إن اخترقت الأصل
وخالفت السنة اللغوية وهي أن الشعر
أولاً والعروض مرحلة ثانية، وعكست
الطريقة وقلبت النظرية فأنت
أدخلت نفسك في الزحام وأصبحت
شاعر صنعة، عودًا من حزمة تحتشد
فيهم المجامع وتمتلئ بهم
الساحات ويقفون طوابير على أبواب
الصحف لنشر قصائدهم (المصنوعة)،
وهذه حقيقة، فهناك شعراء
يفتقدون الموهبة لكنهم يمتلكون
الصنعة، وهي نتاج الحفظ والقراءة
الموسعة للشعر، فحفظك الكثير
من القصائد تستطيع أن تعيد منه
قصيدة، ولعلي هنا أذكر قصة
لأحد اللغويين الذي جاء إليه سائل
يريد أن يكون شاعرًا، فماذا رد عليه
العالم اللغوي؟ قال له اذهب
واحفظ ما استطعت من الشعر
وائتني بعد سنة، ثم ذهب يحفظ
وجاء بعد سنة، فقال مخاطبًا العالم:
الآن أصبحت شاعرًا، فرد عليه
العالم «لا»، ثم طلب منه أن يذهب
وينسى ما حفظ، ويأتي بعد سنة،
وعندما جاءه بعد أن أمضى سنتين
في سبيل الحصول على كلمة (شاعر)،
قال له العالم اللغوي الآن أنت شاعر،
كيف ذلك؟ يقصد أن حفظ الكثير
من الشعر يثري المخزون لفظًا
ومعنى ويعود الإنسان على أوزان
وإيقاع القصائد ويهذب لغته ويرقق
حسه، ومع الممارسة يستطيع أن
يصنع الشعر.. ولعلكم تذكرون قصيدة
(صوت صفير البلبل) التي صنعها
الأصمعي للأمير، ومع ذلك لا يعترف
الأصمعي بأنه شاعر لأنه يعلم أن
الشعر موهبة وليس صنعة، وكذلك
علماء اللغة مثل خلف الأحمر وحماد
الراوية يستطيعون أن يصنعوا قصائد
موزونة ومقفاة وتحمل معنى قويًا
لكنهم يعلمون بقرارة أنفسهم
أنهم ليسوا شعراء.
وحتى لا يطول بنا الحديث فملخص
ما سبق أن الشعر جزء منه موهبة
وجزء مكتسب، فبقدرة أي إنسان
أن يكتسب الشعر لكن ليس
بقدرته أن يكون شاعرًا.
وهنا ليس حديثنا يقتصر على
الشعر وإنما على الطريقة التي
تستطيع من خلالها أن تفتش عن
مكامن الإبداع المدفونة في داخلك
سواء تجلت وتفتقت عن شعر أو
عن كتابة أو عن أي فن من الفنون
الإبداعية الهادفة التي تكسبك
قيمة وتملأ حياتك لذة وهدفًا
وينعكس أثرها على مجتمعك
وتخدم بها أمتك.
سطور أخيرة
كل موهبة لا بد لها من مدد
وغذاء، فموهبة الكتابة لا بد
من مدها بالقراءة، وموهبة
الرسم لا بد من مدها بالأفق
الواسع والخيال الخصب، فقد يجيد
الرسام تحريك الريشة وتنويع
الأصباغ لكنه قد يقصر في قراءة
الواقع وتلخيص الأحداث، وكذلك
موهبة الشعر لا بد من مدها باللغة
والثقافة الشعرية وسعة الاطلاع.