منتديات هبوب الجنوب

منتديات هبوب الجنوب (http://www.h-aljnoop.com/vb/index.php)
-   ۩۞۩ هبوب نفحات إيمـــانيــة ۩۞۩ (http://www.h-aljnoop.com/vb/forumdisplay.php?f=5)
-   -   لبيك اللهم لبيك (http://www.h-aljnoop.com/vb/showthread.php?t=44791)

الوافي 14-07-2021 03:40 AM

لبيك اللهم لبيك
 

https://1.bp.blogspot.com/-tzYgj903g...%25D8%25AC.jpg



https://1.bp.blogspot.com/-5J6_EeN8T...8%A8%D9%87.gif

المبحثُ الأوَّل: تعريفُ الحَجِّ
الحج لغةً: هو القَصْد (1) .
الحجُّ اصطلاحًا: هو قَصْدُ المشاعِرِ المقدَّسة؛ لأداء المناسكِ في مكان ووقت مخصوص تعبُّدًا لله عزَّ وجلَّ (2) .
المبحثُ الثَّاني: تعريفُ العُمْرَةِ
العُمْرَة لغةً: الزيارَةُ والقَصْدُ (3) .
العُمْرَة اصطلاحًا: التعبُّد لله تعالى بالطَّوافِ بالبيتِ، والسَّعْيِ بين الصَّفا والمروة، والتحَلُّلِ منها بالحَلْقِ أو التَّقصيرِ (4) .
المبحث الثَّالث: من فضائِلِ الحَجِّ والعُمْرَة
1- الحجُّ من أفضَلِ الأعمالِ عندَ الله تعالى:
عن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((سُئلَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسَلَّم: أيُّ الأعمالِ أفضَلُ؟ قال: إيمانٌ باللهِ ورسولِه. قيل: ثمَّ ماذا؟ قال جهادٌ في سبيلِ اللهِ. قيل: ثمَّ ماذا؟ قال: حجٌّ مبرورٌ)) (5) .
2- الحجُّ من أسبابِ مغفرةِ الذُّنوبِ:
عن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عنه قال: سَمِعْتُ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم يقول: ((من حجَّ للهِ فلم يرفُثْ ولم يَفْسُقْ، رجَع كيومَ وَلَدَتْه أُمُّه)) (6) .
3- الحجُّ المبرورُ (7) جزاؤُه الجنَّةُ:
عن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسَلَّم قال: ((العُمْرَةُ إلى العُمْرَةِ كفَّارةٌ لِما بينهما، والحجُّ المبرورُ ليس له جَزاءٌ إلَّا الجنَّةُ)) (8) .
4- الحجُّ يَهْدِمُ ما كان قَبْلَه:
عن عبد اللهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسَلَّم: ((أمَا عَلِمْتَ أنَّ الإِسْلامَ يهدِمُ ما كان قَبْلَه، وأنَّ الهجرةَ تهدِمُ ما كان قبْلَها، وأنَّ الحجَّ يهدِمُ ما كان قبْلَه)) (9) .
5- المتابَعَةُ بين الحَجِّ والعُمْرَة تنفي الفَقْرَ والذُّنوبَ:
عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسَلَّم: ((تابِعوا بين الحَجِّ والعُمْرَة؛ فإنَّهما ينفيانِ الفقرَ والذُّنوبَ كما ينفي الكِيرُ خبَثَ الحديدِ والذَّهَبِ والفِضَّةِ)) (10) .
6- العُمْرَةُ إلى العُمْرَة كفَّارةٌ لما بينهما:
عن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسَلَّم قال: ((العُمْرَةُ إلى العُمْرَة كفَّارةٌ لِما بينهما)) (11) .
7- العُمْرَةُ في رمضانَ تَعْدِلُ حَجَّةً مع النبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم:
عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسَلَّم لامرأةٍ من الأنصارِ- سمَّاها ابنُ عبَّاسٍ فنَسيتُ اسْمَها-: ((ما منعَكِ أن تحُجِّي معنا؟)). قالت: لم يكُنْ لنا إلَّا ناضحانِ، فحجَّ أبو وَلَدِها وابنُها على ناضحٍ، وترك لنا ناضحًا ننضِحُ عليه. قال: ((فإذا جاء رمضانُ فاعتَمِري؛ فإنَّ عُمْرَةً فيه تعدِلُ حَجَّةً)) (12) .
وفي رواية: ((فإن عُمْرَةً في رمضانَ تقضي حَجَّةً معي))

https://upload.3dlat.com/uploads/13811427031.gif
https://lh3.googleusercontent.com/zz...5c=w1000-h1000
https://www.sqorebda3.com/vb/Photo/2...092825_736.gif


الوافي 14-07-2021 03:41 AM



https://lh3.googleusercontent.com/XX...zY=w1000-h1000
الفصل الثَّاني: من حِكَم مشروعيَّةِ الحَجِّ




1- تحقيقُ توحيدِ اللهِ تعالى:
- قال تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (1) [الحج: 26-27].
- عن جابر رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه قال في بيانِ حَجَّتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلام: ((فأهلَّ بالتوحيدِ (2) : لبَّيكَ اللهُمَّ لبَّيك، لبَّيْك لا شريكَ لك لبَّيْك؛ إنَّ الحمدَ والنِّعمَةَ لك والْمُلْك، لا شريكَ لك (3) )) (4) .
2- إظهارُ الافتقارِ إلى اللهِ سبحانه:
فالحاجُّ يبتعِدُ عن الترفُّهِ والتزيُّنِ، ويلبَسُ ثيابَ الإحرامِ؛ متجرِّدًا عن الدنيا وزينَتِها، فيُظْهِر عَجْزَه، ومسكَنَتَه، ويكون في أثناءِ المناسك ضارعًا لربِّه عزَّ وجَلَّ، مفتقرًا إليه، ذليلًا بين يديه، مُنقادًا بطواعِيَةٍ لأوامِرِه، مجتَنِبًا لنواهِيه سبحانه، سواءٌ عَلِمَ حِكْمَتَها أم لم يعلَمْ (5) .
3- تحقيقُ التقوى لله تعالى:
قال تعالى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (6) [البقرة: 197].
ومما تتحقَّقُ به التقوى في الحجِّ، الابتعادُ عن محظوراتِ الإحرامِ.
4- إقامَةُ ذِكْرِ اللهِ عزَّ وجَلَّ:
قال تعالى: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [البقرة: 198–200].
5- تهذيبُ النَّفْسِ البشريَّةِ:
قال تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ (7) [البقرة: 197].
عن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عنه قال: سمعْتُ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم يقول: ((من حجَّ لله، فلم يرْفُثْ ولم يفْسُقْ، رجع كيومَ وَلَدَتْه أمُّه)) (8) .
6- في الحَجِّ تذكيرٌ بالآخِرَة ووقوفِ العبادِ بين يَدَيِ اللهِ تعالى يومَ القيامَةِ:
فالمشاعِرُ تجمع النَّاسَ من مختَلِفِ الأجناسِ في زيٍّ واحدٍ؛ مكشوفي الرُّؤوس، يلبُّون دعوةَ الخالق عزَّ وجَلَّ، وهذا المشهَدُ يُشْبِهُ وقوفَهم بين يديه سبحانه يومَ القيامة في صعيدٍ واحدٍ حفاةً عراةً غُرْلًا خائفينَ وَجِلِينَ مُشْفِقينَ؛ وذلك مما يبعَثُ في نَفْسِ الحاجِّ خَوْفَ اللهِ ومراقَبَتَه والإخلاصَ له في العَمَلِ (9) .
7- تربيةُ الأُمَّةِ على معاني الوَحْدَةِ الصَّحيحةِ:
ففي الحجِّ تختفي الفوارِقُ بين النَّاسِ من الغنى والفَقْرِ، والجِنْسِ واللَّوْنِ، وغيرِ ذلك، وتتوحَّد وِجْهَتُهم نحو خالقٍ واحدٍ، وبلباسٍ واحدٍ، يؤدُّون نفْسَ الأعمالِ في زمنٍ واحد ومكانٍ واحدٍ، بالإضافة إلى ما يكون بين الحجيجِ مِن مظاهِرِ التعاوُنِ على البِرِّ والتقوى، والتَّواصي بالحقِّ، والتواصي بالصَّبْر (10) .
8- أنَّ أداءَ فريضةِ الحَجِّ فيه شكرٌ لنِعْمَةِ المالِ وسلامَةِ البَدَنِ:
ففي الحجِّ شُكر هاتين النِّعْمَتينِ العظيمتينِ؛ حيث يُجْهِدُ الإنسانُ نفسَه، ويُنفِقُ مالَه في التقرُّبِ إلى الله تبارك وتعالى (11) .
إلى غير ذلك من الحِكَم والفوائِدِ والمنافِعِ



الوافي 14-07-2021 03:42 AM

https://neswan.cc/wp-content/uploads/2018/08/5369-8.gif
الحجُّ ركنٌ من أركانِ الإِسْلامِ، وفرضٌ من فروضِه.
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتابِ
قولُه تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (1) [آل عمران: 97].
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
عن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم يقول: بُنِيَ الإِسْلامُ على خمسٍ: شهادَةِ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه، وإقامِ الصَّلاةِ، وإيتاءِ الزَّكاةِ، وحَجِّ البَيْتِ، وصَوْمِ رَمَضانَ)) (2) .
ثالثًا: مِنَ الإجماعِ
نقلَ الإجماعَ على ذلك ابنُ المُنْذِر (3) ، وابنُ حَزْمٍ (4) ، والكاسانيُّ (5) .
المطلب الثاني: حكم جاحد الحج
مَن جَحَد وجوبَ الحجِّ، فهو كافرٌ.
الدَّليلُ مِنَ الإجماعِ:
نقلَ الإجماعَ على ذلك: ابن تيميَّة (6) .
المبحثُ الثَّاني: الفَورُ والتراخي في الحَجِّ
الحجُّ واجبٌ على الفَوْرِ عند تحقُّقِ شُروطِه، ويأثمُ المرءُ بتأخيرِه، وهو مَذْهَبُ الحَنابِلَة (7) ، وروايةٌ عن أبي حنيفةَ، وقولُ أبي يوسُفَ من أصحابِه (8) ، وقولُ بعضِ المُتَأخِّرينَ من المالِكِيَّة، ونُقِلَ عن مالكٍ (9) ، وهو قولُ داودَ الظَّاهريِّ (10) ، وذهب إليه أكثَرُ العلماءِ (11) ، واختاره الشَّوْكانيُّ (12) ، والشِّنْقيطيُّ (13) ، وابنُ باز (14) ، وابنُ عُثيمين (15) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتابِ
1- قَوْلُه تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران: 97] والأمْرُ على الفَوْرِ (16) .
2- قَوْلُه تعالى: فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ[البقرة: 148].
3- قَوْلُه تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ[آل عمران: 133].
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ اللهَ سبحانه قد أمر بالاسْتِباقِ إلى الخيراتِ والمُسارَعَةِ إلى المغفِرَة والجنَّة؛ والمسابَقَةُ والمُسارَعَةُ كلتاهما على الفَوْرِ لا التَّراخي، فالتأخيرُ خِلافُ ما أمرَ اللهُ تعالى به (17) .
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عن أبي هريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: خطبَنا رسولُ الله صلَّى الله عليه وسَلَّم، فقال: ((أيُّها النَّاسُ، قد فرض اللهُ عليكم الحَجَّ، فحُجُّوا)) (18) والأصْلُ في الأمْرِ أن يكون على الفَوْرِ، ولهذا غَضِبَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسَلَّم في غزوةِ الحُديبِيَةِ حين أمرَهم بالإحلالِ وتَباطَؤُوا (19) .
ثالثًا: أنَّ الإنسانَ لا يدري ما يَعْرِضُ له، فقد يطرأُ عليه العجزُ عن القيامِ بأوامِرِ اللهِ، ولو أخَّر الحَجَّ عن السَّنَة الأولى فقد يمتَدُّ به العُمُر، وقد يموت فيُفَوِّت الفَرْضَ، وتفويتُ الفَرْضِ حرامٌ (20) .
المبحثُ الثَّالِث: حُكْمُ العُمْرَةِ
العُمْرَة واجبةٌ، وهو مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّة- في الأظهَرِ (21) -، والحَنابِلَة (22) ، والظَّاهِريَّة (23) ، وبه قالت طائفةٌ مِنَ السَّلَف (24) ، وحُكِيَ عن أكْثَرِ أَهْل العِلْم (25) ، وهو اختيارُ الشِّنْقيطيِّ (26) ، وابنِ باز (27) ، وابنِ عُثيمين (28) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتاب
قولُه تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ[البقرة: 196].
أوجُهُ الدَّلالَةِ:
الوجهُ الأوَّل: اقترانُها بالحَجِّ، والحَجُّ واجبٌ بإجماعِ أَهْل العِلْم، وهذا ما فَهِمَه ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما؛ فإنَّه قال: (واللهِ إنَّها لَقَرينَتُها في كتابِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ والْعُمْرَةَ لِلَّهِ (29) [البقرة: 196]).
الوجه الثَّاني: أنَّ معنى الإتمامِ: الإقامةُ؛ أي: أقيموا الحَجَّ والعُمْرَةَ لله، كما في قَوْلِه تعالى: فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ[النساء: 103]؛ أي: أتمُّوا الصَّلاةَ، وهذا تفسيرُ سعيدِ بنِ جُبيرٍ وعطاءٍ (30) .
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عن أبي رَزينٍ أنَّه قال: ((يا رسولَ اللهِ، إنَّ أبي شيخ ٌكبيرٌ لا يستطيعُ الحَجَّ ولا العُمْرَةَ ولا الظَّعْنَ، قال: احْجُجْ عن أبيكَ واعْتَمِرْ)) (31) .
2- عن عائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((قلتُ: يا رسولَ اللهِ، على النِّساءِ جهادٌ؟ قال: نعم، عليهنَّ جهادٌ لا قِتالَ فيه: الحَجُّ والعُمْرَةُ)) (32) .
وجه الدَّلالَةِ:
قولُه: (عليهِنَّ) ظاهِرٌ في الوجوبِ؛ لأنَّ (على) مِن صِيَغِ الوُجوبِ، كما ذكر ذلك الأصوليُّونَ، وعلى هذا فالعُمْرَةُ واجبَةٌ (33) .
3- عن أبي وائلٍ قال: قال الصبيُّ بنُ مَعْبَدٍ: ((كنت رجلًا أعرابيًّا نصرانيًّا، فأسلمْتُ، فأتيتُ رجلًا من عشيرتي، يقال له هُذَيمُ بْنُ ثُرْمُلَةَ، فقلت له: يا هَنَاهْ، إنِّي حريصٌ على الجهادِ، وإنِّي وجدْتُ الحَجَّ والعُمْرَةَ مكتوبينِ عليَّ، فكيفَ لي بأن أجْمَعَهما؟ قال: اجمَعْهُما واذبَحْ ما استيسَرَ من الهَدْيِ. فأهلَلْتُ بهما معًا، فلمَّا أتيتُ العُذَيبَ لَقِيَني سلمانُ بنُ ربيعةَ وزيدُ بنُ صُوحانَ، وأنا أُهِلُّ بهما جميعًا، فقال أحدُهما للآخَرِ: ما هذا بأفْقَه مِن بَعِيرِه! قال: فكأنَّما ألْقِىَ عليَّ جبلٌ حتى أتيتُ عُمَرَ بنَ الخطَّابِ، فقُلْتُ له: يا أميرَ المؤمنينَ، إنِّي كنتُ رجلًا أعرابيًّا نصرانيًّا، وإنِّي أسلمْتُ وأنا حريصٌ على الجهادِ، وإني وجدْتُ الحَجَّ والعُمْرَةَ مكتوبينِ عليَّ، فأتيتُ رَجُلًا من قومي، فقال لي: اجمَعْهُما واذبَحْ ما استيسَرَ من الهَدْيِ، وإني أهلَلْتُ بهما معًا. فقال لي عُمَرُ رَضِي اللهُ عنه: هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّك صلَّى الله عليه وسَلَّم)) (34) .
المبحثُ الرَّابِعُ: وقت العمرة وحُكْمُ تَكرارِها
المطلَبُ الأوَّلُ: وَقتُ العُمرةِ
تَجوزُ العُمرةُ في كلِّ أوقاتِ السَّنةِ لِمَن لم يكُن متلبِّسًا بأعمالِ الحجِّ، وذلك في الجُملة.
الدَّليلُ مِنَ الإجماعِ:
نقلَ الإجماعَ على ذلك: ابنُ رشد (35) ، والنوويُّ (36) ، وابنُ حَجَر (37) .
المطلب الثاني: حُكْمُ تَكرارِ العُمْرَةِ في السَّنَةِ الواحِدَةِ
يجوز تَكرارُ العُمْرَةِ في السَّنَةِ الواحِدَةِ (38) ، وهو مَذْهَبُ الجُمْهورِ: الحَنَفيَّةِ (39) ، والشَّافِعِيَّة (40) ، والحَنابِلَةِ (41) ، وبعضِ المالِكِيَّة (42) ، وبه قالت طائفةٌ مِنَ السَّلَفِ (43) .
الأدلَّة مِنَ السُّنَّةِ:
1- عن أبي هريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم قال: ((العُمْرَةُ إلى العُمْرَةِ كفارةٌ لِمَا بينهما، والحَجُّ المبرورُ ليس له جزاءٌ إلَّا الجنَّةُ)) (44) .
وجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّه نَبَّه على التفريقِ بين الحَجِّ والعُمْرَة في التَّكرارِ؛ إذ لو كانت العُمْرَةُ كالحَجِّ؛ لا تُفعَلُ في السَّنَةِ إلَّا مرةً لسَوَّى بينهما ولم يُفَرِّقْ (45) .
2- أنَّ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها اعتَمَرَتْ في شهرٍ مرَّتينِ بأَمْرِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم: عُمْرَةً مع قِرانِها، وعُمْرَةً بعد حَجِّها (46) .


الوافي 14-07-2021 03:42 AM


https://encrypted-tbn0.gstatic.com/i...TFV_A&usqp=CAU
تنقَسِمُ شُروطُ الحَجِّ إلى ثلاثَةِ أقْسامٍ:
القِسْمُ الأوَّلُ: شروطُ وجوبٍ وصِحَّةٍ وإجزاءٍ: (الإِسْلامُ، العَقْلُ)
القِسْمُ الثَّاني: شروطُ وجوبٍ وإجزاءٍ فقط: (البلوغُ، الحُرِّيَّة)
القِسْمُ الثَّالِث: شَرْطُ وجوبٍ فقط: (الاستطاعَةُ)

الوافي 14-07-2021 03:43 AM



https://www.rmaziaty.com/wp-content/...07-623x779.png

المبحَثُ الأوَّلُ: الحُرِّيَّةُ
المطلَبُ الأوَّل: الحُرِّيَّة شرطُ وجوبٍ
الحرِّيَّةُ شرْطٌ في وجوب الحَجِّ، فلا يجِبُ على العبدِ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهِيَّةِ الأربَعَةِ: الحَنَفيَّةِ (1) ، والمالِكِيَّةِ (2) ، والشَّافِعِيَّةِ (3) ، والحَنابِلَة (4) ، وحُكِيَ الإجماعُ على ذلك (5) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الآثارِ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((أيُّما صَبِيٍّ حَجَّ ثم بلَغَ، فعَلَيه حَجَّةُ الإِسْلامِ، وأيُّما عبدٍ حجَّ ثم عُتِقَ، فعليه حَجَّةُ الإِسْلامِ)) (6) .
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ الحَجَّ لو كان واجبًا على العبدِ في حال كونه مملوكًا لأَجْزَأه ذلك عن حَجَّةِ الإِسْلامِ، وقد دلَّ الحديثُ أنَّه لا يُجْزِئُه، وأنَّه إذا أُعْتِقَ بعد ذلك لَزِمَتْه حَجَّةُ الإِسْلامِ (7) .
ثانيًا: أنَّ الحَجَّ عبادةٌ تَطولُ مُدَّتُها، وتتعلَّقُ بقَطْعِ مسافةٍ، والعَبْدُ مستغْرِقٌ في خِدْمَةِ سَيِّدِه، ومنافِعُه مُسْتَحَقَّةٌ له، فلو وجب الحَجُّ عليه لضاعت حقوقُ سَيِّدِه المتعَلِّقَة به، فلم يجِبْ عليه؛ كالجهادِ (8) .
ثالثًا: أنَّ الاستطاعةَ شَرْطٌ في الحَجِّ، وهي لا تتحقَّقُ إلا بمِلْكِ الزَّادِ والرَّاحِلَة، والعبدُ لا يتملَّكُ شيئًا (9) .
المَطْلَب الثَّاني: الحرِّيَّةُ شَرْطُ إجزاءٍ
الحرِّيَّة شَرْطٌ في الإجزاءِ عن حَجِّ الفريضة، فإذا حجَّ العبد لم يُجْزِئْه عن حجِّ الفريضة، ولَزِمَه إذا أُعْتِقَ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهِيَّةِ الأربَعَةِ: الحَنَفيَّةِ (10) ، والمالِكِيَّةِ (11) ، والشَّافِعِيَّةِ (12) ، والحَنابِلَةِ (13) ، وحُكِيَ الإجماعُ على ذلك (14) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الآثارِ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((من حَجَّ ثم عُتِقَ، فعليه حَجَّةٌ أخرى، ومن حَجَّ وهو صغيرٌ ثمَّ بَلَغ، فعليه حَجَّةٌ أخرى)) (15) .
ثانيًا: أنَّ الرقيقَ فَعَلَ ذلك قبل وُجوبِه عليه، فلم يُجْزِئْه إذا صار من أهْلِه، كالصَّغيرِ (16) .
المبحث الثَّاني: البُلوغُ
المَطْلَبُ الأوَّلُ: حُكْمُ حَجِّ الصَّبيِّ
البلوغُ ليس شرطًا لصِحَّةِ الحَجِّ، فيصِحُّ مِنَ الصَّبيِّ (17) ، فإن كان مُمَيِّزًا (18) أحرَمَ بنَفْسِه، وإن لم يكن مُمَيِّزًا أحرم عنه وَلِيُّه، وهذا مَذْهَبُ الجُمْهورِ مِنَ المالِكِيَّة (19) ، والشَّافِعِيَّة (20) ، والحَنابِلَة (21) ، وبعضِ الحَنَفيَّةِ (22) ، وجماهيرِ العُلَماءِ مِنَ السَّلَفِ والخَلَفِ (23) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم لَقِيَ ركبًا بالرَّوْحاءِ، فقال: مَنِ القَوْمُ؟ قالوا: المسلمونَ، فقالوا: من أنت؟ قال: رسولُ اللهِ، فرفَعَتْ إليه امرأةٌ صَبِيًّا، فقالت: ألِهذا حَجٌّ؟ قال: نعم، ولكِ أَجْرٌ)) (24) .
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ الصبيَّ الذي يُحمَل بِعَضُدِه، ويُخْرَج من الْمِحَفَّةِ لا تمييزَ له (25) .
2- عن السَّائِبِ بن يزيدَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((حُجَّ بي مع رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم وأنا ابنُ سَبْعِ سِنِينَ)) (26) .
ثانيًا: أنَّه يَصِحُّ من الوليِّ عَقْدُ النِّكاحِ عنه والبَيْع والشِّراء بمالِه، فيصِحُّ إحرامُه عنه إذا كان غيرَ مُمَيِّز (27) .
المَطْلَب الثَّاني: البلوغُ شَرْطُ وجوبٍ، وشَرْطُ إجزاءٍ
البلوغُ شَرْطُ وجوبٍ وشَرْطُ إجزاءٍ، فلا يجِبُ الحَجُّ على الصبيِّ، فإن حَجَّ لم يُجْزِئْه عن حَجَّة الإِسْلامِ، وتَجِبُ عليه حَجَّةٌ أخرى إذا بلغ (28) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم قال: ((رُفِعَ القَلَمُ عن ثلاثةٍ: عَنِ النَّائِمِ حتى يستيقِظَ، وعن الصَّبيِّ حتى يحتلِمَ، وعن المجنونِ حتى يَعْقِلَ)) (29) .
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ في قَوْلِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسَلَّم: ((رُفِعَ القَلَمُ عن ثلاثة ... وعن الصبيِ حتى يحتَلِمَ)) دليلًا على أنَّ حَجَّ الصبيِّ تطَوُّعٌ، ولم يُؤَدِّ به فرضًا؛ لأنَّه مُحالٌ أن يُؤَدِّيَ فرضًا من لم يجِبْ عليه الفَرْضُ (30)
ثانيًا: مِنَ الإجماعِ
نَقَلَ الإجْماعَ على عَدَمِ وجوبِ الحَجِّ إلَّا بالبلوغِ: ابنُ المُنْذِر (31) ، وابنُ جُزَيٍّ (32) ، والشِّربيني (33) ، ونَقَلَ الإجْماعَ على عَدَمِ إجزاءِ الحَجِّ إلَّا بالبلوغِ: الترمذِيُّ (34) وابنُ المُنْذِر (35) ، وابنُ عبدِ البَرِّ (36) ، والقاضي عِياضٌ (37) .
ثالثًا: أنَّ من لم يبلُغْ ليس مكَلَّفًا فلا يتعَلَّقُ به التَّكْليفُ (38) .
المَطْلَب الثَّالِث: ما يفعَلُه الصبيُّ بنَفْسِه وما يفْعَلُه عنه ولِيُّه
ما يفعله الصبيُّ من أعمالِ الحَجِّ على قسمينِ:
القِسْم الأوَّل: ما يَقْدِرُ عليه الصبيُّ بنَفْسِه؛ كالوقوفِ بعرفَةَ، والمَبِيتِ بمُزْدَلِفَة ومِنًى، فإنَّه يلزَمُه فِعْلُه (39) ، ولا تجوزُ فيه النِّيابَةُ.
القِسْم الثَّاني: ما لا يَقْدِرُ عليه؛ فإنَّه يَفْعَلُه عنه وليُّه (40) .

الوافي 14-07-2021 03:45 AM

الاستطاعَةُ لغةً: هي الطَّاقَةُ والقُدرةُ على الشَّيءِ (1) .
الاستطاعَةُ اصطلاحًا: المستطيعُ هو القادِرُ في مالِه وبَدَنِه، وذلك يختلِفُ باختلافِ أحوالِ النَّاسِ، واختلافِ عوائِدِهم، وضابِطُه: أن يُمْكِنَه الركوبُ، ويجِدَ زادًا وراحلةً صالحَينِ لِمِثْلِه بعد قضاءِ الواجِباتِ، والنَّفَقاتِ، والحاجاتِ الأَصْلِيَّة (2) .

المَطْلَب الأوَّل: اشتراطُ الاستطاعَةِ في وُجوبِ الحَجِّ
الاستطاعَةُ شرطٌ في وجوبِ الحَجِّ.
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتابِ:
1- قال اللهُ تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا (1) [آل عمران: 97].
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ اللهَ تعالى خصَّ المستطيعَ بالإيجابِ عليه، فيختَصُّ بالوجوبِ، وغيرُ المُستطيعِ لا يَجِبُ عليه (2) .
2- قال اللهُ تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا[البقرة: 286].
ثانيًا: مِنَ الإجماعِ
نقلَ الإجماعَ على ذلك ابنُ حَزْمٍ (3) ، وابنُ قُدامة (4) ، والقُرطبيُّ (5) ، والنَّوَوِيُّ (6) .
ثالثًا: انتفاءُ تكليفِ ما لا يُطاقُ شَرْعًا وعَقْلًا (7) .
المَطْلَب الثَّاني: هل الاستطاعَةُ شَرْطُ إجزاءٍ في الحَجِّ؟
الاستطاعة ليسَتْ شَرْطَ إجزاءٍ في الحَجِّ، فإذا تجشَّمَ غيرُ المستطيعِ المشَقَّة، فحجَّ بغيرِ زادٍ ولا راحلةٍ، فإنَّ حَجَّه يقعُ صحيحًا مُجْزئًا عن حَجِّ الفريضةِ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهِيَّةِ الأربَعَةِ: الحَنَفيَّة (8) ، والمالِكِيَّة (9) ، والشَّافِعِيَّة (10) ، والحَنابِلَة (11) .
وذلك للآتي:
أوَّلًا: أنَّ خَلْقًا من الصَّحابَة رَضِيَ اللهُ عنهم حَجُّوا ولا شيءَ لهم، ولم يُؤْمَرْ أحدٌ منهم بالإعادَةِ (12) .
ثانيًا: أنَّ الاستطاعَةَ إنَّما شُرِطَتْ للوصولِ إلى الحَجِّ، فإذا وَصَل وفَعَل أجزَأَه (13) .
ثالثًا: أنَّ سُقوطَ الوُجوبِ عن غَيْرِ المستطيعِ إنَّما كان لدَفْعِ الحَرَجِ، فإذا تحمَّلَه وقع عن حَجَّةِ الإِسْلامِ، كما لو تكَلَّفَ القيامَ في الصَّلاةِ والصيامِ مَنْ يسقُطُ عنه، وكما لو تكَلَّفَ المريضُ حضورَ الجُمُعةِ، أو الغنيُّ خطَرَ الطَّريقِ، وحَجَّ، فإنَّه يُجْزِئُ عنهم جميعًا (14) .
المَطْلَبُ الثَّالِث: إِذْنُ الوَالِدَيْنِ في حَجِّ الفَريضَةِ
ليس للوالدينِ مَنْعُ الولَدِ المُكَلَّف من الحَجِّ الواجِبِ، ولا تحليلُه من إحرامِه، وليس للوَلَدِ طاعَتُهما في تَرْكِه، وإن كان يُستَحَبُّ له استئذانُهما؛ نصَّ على هذا فُقَهاءُ الحَنَفيَّةِ (15) , والشَّافِعِيَّة (16) ، والحَنابِلَة (17) ، وهو أحَدُ القَوْلينِ للمالِكِيَّة (18) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتاب
قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا[لقمان: 15].
وجه الدَّلالَةِ:
دلَّ قَوْلُه: فَلَا تُطِعْهُمَا على أنَّ طاعَةَ الوَالِدَينِ لازِمَةٌ ما لم يكُنْ فيها تَرْكُ طاعَةِ اللهِ (19) .
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عن عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم، قال: ((لا طاعَةَ في مَعْصِيَةِ اللهِ, إنَّما الطَّاعَةُ في المعروفِ)) (20) .
2- عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((سألْتُ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسَلَّم قُلْتُ: يا رسولَ اللهِ، أيُّ العَمَلِ أفضَلُ؟ قال: الصَّلاةُ على مِيقاتِها، قُلْتُ: ثمَّ أيٌّ؟ قال: ثُمَّ بِرُّ الوالدَينِ، قُلْتُ: ثمَّ أيٌّ؟ قال: الجهادُ في سبيلِ اللهِ)) (21) .
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ فيه تقديمَ الصَّلاةِ على ميقاتِها على بِرِّ الوالِدَينِ، فدلَّ على أنَّ فرائِضَ الأعيانِ التي هي من حقوقِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ تُقَدَّمُ على فروضِ الأعيانِ التي هي من حقوقِ العِبادِ، فيُقَدَّمُ حَجُّ الفريضةِ على بِرِّ الوالدَينِ (22) .
ثالثًا: أنها قربة لا مخالفة عليه فيها فلا يجوز لهما منعه أو تحليله منها كالصوم (23) .
رابعًا: أنها فرض عين فلم يعتبر إذن الأبوين فيها كالصلاة (24) .
خامسًا: أنَّ طاعَةَ الوالِدَينِ إنَّما تَلْزَمُ في غير المعصِيَةِ (25) .
المَطْلَبُ الرَّابِعُ: إذْنُ الوالِدَينِ في حَجِّ النَّافِلَة
للأبوينِ مَنْعُ وَلَدَيْهما مِن حَجِّ التطَوُّعِ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهِيَّةِ الأربَعَةِ: الحَنَفيَّة (26) ، والمالِكِيَّة (27) ، والشَّافِعِيَّة (28) ، والحَنابِلَة (29) .
وذلك للآتي:
أوَّلًا: أنَّه يلزَمُ طاعَةُ الوالدَينِ في غيرِ معصيَةٍ, ولو كانا فاسقَيْنِ؛ لعمومِ الأوامِرِ بِبِرِّهِما والإحسانِ إليهما (30) .
ثانيًا: أنَّ للوالدينِ مَنْعَه من الجهادِ، وهو مِن فُروضِ الكِفاياتِ، فالتَّطَوُّعُ أَوْلى (31) .
المَطْلَبُ الخامِسُ: إذْنُ صاحِبِ العَمَلِ
من أراد حَجَّ الفريضَةِ وكان بينه وبين غَيْرِه عَقْدٌ يُلْزِمُه بالعَمَلِ في أيَّامِ الحَجِّ أو بَعْضِها، فإنَّه يستأذِنُ منه, فإنْ أَذِنَ له وإلَّا وجب عليه الوَفاءُ بالعَقْدِ، وهذه فتوى ابنِ باز (32) , وابنِ عُثيمين (33) ، واللَّجْنَةِ الدَّائِمَةِ (34) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتاب
1- قَوْلُه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ[المائدة: 1].
2- قَوْلُه تعالى: وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولًا[الإسراء: 34].
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
قوله صلَّى الله عليه وسَلَّم: ((المُسْلِمونَ على شُروطِهم)) (35) .
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ العقْدَ الذي جرى بين الموَظَّف ومُوَظِّفِه عَهْدٌ يجِبُ الوفاءُ بِشُروطِه حَسَبَما يقتضي العَقْدُ (36) .



الوافي 14-07-2021 03:47 AM


https://neswan.cc/wp-content/uploads/2018/08/5369-8.gif

أقسامُ الاستطاعَةِ في الحَجِّ والعُمْرَةِ أربعةٌ:
القِسْمُ الأوَّلُ: أن يكون قادرًا ببَدَنِه ومالِه: فهذا يلزَمُه الحَجُّ والعُمْرَةُ بنفسِه بإجماعِ أَهْلِ العِلْمِ (1) .
القِسْم الثَّاني: أن يكونَ عاجزًا بمالِه وبَدَنِه: فهذا يسقُطُ عنه الحَجُّ والعُمْرَةُ بإِجْماعِ أَهْلِ العِلْمِ (2) .
القِسْم الثَّالِث: أن يكون قادرًا ببَدَنِه عاجزًا بمالِه: فلا يلزَمُه الحَجُّ والعُمْرَة بلا خلافٍ (3) , إلَّا إذا كان لا يتوقَّفُ أداؤُهما على المالِ؛ مثل: أن يكونَ مِن أهْلِ مكَّةَ لا يشُقُّ عليه الخروجُ إلى المشاعِرِ (4) .

القِسْم الرَّابِع:.أن يكون قادرًا بمالِه عاجزًا ببَدَنِه عجزًا لا يُرجى زَوالُه: فيجب عليه الحَجُّ والعُمْرَةُ بالإنابةِ (5) .



https://1.bp.blogspot.com/-d0-znoAjY...29-623x629.jpg
المَطْلَب الأوَّل: شروطُ الاستطاعَةِ العامَّةِ للرِّجالِ والنِّساءِ
الشَّرْطُ الأوَّل: الاستطاعَةُ البَدنِيَّةُ: وتشمَلُ صحَّةَ البَدَنِ، والقُدرةَ على السَّيرِ والرُّكوبِ.
الشَّرْطُ الثَّاني: الاستطاعَةُ الماليَّةُ: وتشمَلُ الزَّادَ والرَّاحِلَةَ، والنَّفقَةَ فاضلًا عن دَينِه, ونَفَقَتِه, وحاجاتِه الأصليَّة.
الشَّرْط الثَّالِث: الاستطاعَةُ الأمنيَّة: والمرادُ بها أمْنُ الطَّريقِ.
المَطْلَب الثَّاني: شروطُ الاستطاعَةِ الخاصَّةِ بالنِّساءِ
الشَّرْط الأوَّل: الْمَحْرَمُ.
الشَّرْط الثَّاني: عَدَمُ العِدَّةِ.



الوافي 14-07-2021 03:48 AM

المطلب الأول: من لا يستطيعُ أن يَثبُتَ على الآلةِ أو الرَّاحلة
مَن كان مريضًا لا يَستمِسكُ على الرَّاحلةِ، أو مَعضوبًا (1) ؛ فلا يلزمُه المسيرُ إلى الحجِّ.
الأدلة:
أولًا: من الكتاب
قال الله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران: 97].
وجه الدلالة:
أنَّ من لا يستطيعُ أن يَثبُتَ على الرَّاحلةِ أو يستَمسِكَ بها، فهو غيرُ مُستطيعٍ, فلا يجبُ عليه الحَجُّ بنَفسِه؛ لأنَّه إنما وجبَ على من استطاع إليه سَبيلًا (2) .
ثانيًا: من السنة
عن عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أنَّه جاءَتْه امرأةٌ مِن خَثعَم تستفتيه، قالت: يا رسولَ الله، إنَّ فريضةَ اللهِ على عبادِه في الحجِّ، أدرَكَت أبي شيخًا كبيرًا لا يستطيعُ أن يثبُتَ على الرَّاحلةِ، أفأحُجُّ عنه؟ قال: نعم)) (3) ، وفي رواية: ((قالت: يا رسولَ الله، إنَّ أبي شيخٌ كبيرٌ، عليه فريضةُ اللهِ في الحَجِّ، وهو لا يستطيعُ أن يستوِيَ على ظَهرِ بَعيرِه، فقال صلَّى الله عليه وسلَّم: فحُجِّي عنه)) (4) .
ثالثًا: من الإجماع
نقلَ الإجماعَ على ذلك ابنُ العَرَبيِّ (5) ، والقرطبيُّ (6) ، وابنُ تيميَّة (7) .
المَطْلَب الثَّاني: مَن فَقَد الاستطاعَةَ البَدنيَّةَ هل يلزَمُه أن يُنِيبَ عنه؟
من كان قادرًا بمالِه عاجزًا ببَدَنِه؛ فإنَّه يجب عليه الحَجُّ، بإرسالِ من ينوب عنه، وهذا مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّة (8) ، والحَنابِلَة (9) ، وهو قولٌ للحَنَفيَّة (10) ، واختاره ابنُ حزمٍ (11) ، وابنُ عُثيمين (12) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتاب
قال اللهُ تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران: 97].
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ عُمومَ قَولِه: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا يشمَلُ من استطاعَ الحَجَّ بمالِه، فيُنيبُ من يؤدِّي عنه الحَجَّ (13) .
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
عن عَبْدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم: ((أنَّه جاءَتْه امرأةٌ من خَثْعَم تستفتيه، قالت: يا رسولَ اللهِ، إنَّ فريضَةَ اللهِ على عبادِه في الحَجِّ أدرَكَتْ أبي شيخًا كبيرًا لا يستطيعُ أن يَثْبُتَ على الرَّاحِلَةِ، أفأَحُجُّ عنه؟ قال: نَعَم)) (14) .
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم أقرَّ المرأةَ على وَصْفِ الحَجِّ على أبيها بأنَّه فريضةٌ، مع عَجْزِه عنه ببَدَنِه، ولو لم يجِبْ عليه لم يُقِرَّها الرَّسولُ صلَّى الله عليه وسَلَّم؛ لأنَّه لا يُمكِنُ أن يُقِرَّ على خطأٍ؛ فدلَّ على أنَّ العاجِزَ ببَدَنِه القادِرَ بمالِه؛ يجبُ عليه أن يُنيبَ (15) .

ثالثًا: لأنَّ هذه عبادةٌ تجب بإفسادِها الكَفَّارة، فجاز أن يقومَ غيرُ فِعْلِه فيها مقامَ فِعْلِه؛ كالصَّوْمِ إذا عجز عنه افتدى (16) .


المَطْلَب الأوَّل: اشتراطُ الزَّادِ والرَّاحِلَةِ:
يُشْتَرَطُ في وجوبِ الحَجِّ القُدرةُ على نفقَةِ الزَّادِ والرَّاحِلَة (1) ، فاضلًا عن دَينِه، ونفقَتِه، وحوائِجِه الأصليَّة (2) ، وهذا مَذْهَبُ الجُمْهورِ: الحَنَفيَّة (3) ، والشَّافِعِيَّة (4) ، والحَنابِلَة (5) ، وهو قَوْل سحنون, وابنِ حبيبٍ من المالِكِيَّة (6) ، وبه قال أكثَرُ الفُقَهاءِ (7) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتاب
1- قال اللهُ تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران: 97].
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ الله عَزَّ وجَلَّ لَمَّا قال: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا عَلِمْنَا أنَّها استطاعَةٌ غيرُ القُوَّةِ بالجِسْمِ; إذ لو كان تعالى أراد قُوَّةَ الجِسْمِ لَمَا احتاج إلى ذِكْرِها; لأنَّنا قد عَلِمْنا أنَّ الله تعالى لا يُكَلِّفُ نفسًا إلَّا وُسْعَها (8) .
2- قال اللهُ تعالى: وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ [النحل: 7].
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ الآيةَ تُفيدُ أنَّ الرِّحْلَة لا تبلُغُ إلَّا بِشِقِّ الأنفُسِ بالضَّرورة، ولا يُكَلِّفُنا اللهُ تعالى ذلك؛ لِقَوْله تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحَجُّ: 78] (9) ، فتعيَّنَ اشتراطَ الزَّادِ والرَّاحِلَة؛ لتحقيقِ الاستطاعَةِ في الحَجِّ.
3- قال اللهُ تعالى: وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى البقرة: 197[.]
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((كان أهلُ اليَمَنِ يحجُّونَ ولا يتَزَوَّدون، ويقولون: نحن المتوَكِّلون، فإذا قَدِموا مَكَّةَ، سألوا النَّاسَ، فأنزل اللهُ عَزَّ وجَلَّ: وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)) (10) .
المَطْلَب الثَّاني: من يُشتَرَطُ في حَقِّه الرَّاحِلَةُ
اشتراطُ الرَّاحِلَةِ خاصٌّ بالبعيدِ عن مكَّةَ الذي بينه وبينها مسافَةُ قَصْرٍ، أمَّا القريبُ الذي يُمكِنُه المشيُ، فلا يُعتَبَر وجودُ الرَّاحِلَة في حَقِّه، إلَّا مع عجزٍ؛ كشيخٍ كبيرٍ لا يُمكِنُه المشيُ، وهذا مَذْهَبُ الجُمْهورِ: الحَنَفيَّة (11) ، والشَّافِعِيَّة (12) ، والحَنابِلَة (13) .
وذلك للآتي:
أوَّلًا: أنَّها مسافةٌ قريبةٌ يمكِنُه المشيُ إليها، فلَزِمَه؛ كالسَّعْيِ إلى الجمعةِ (14) .
ثانيًا: أنَّه لا تلحَقُهم مشقَّةٌ زائدةٌ في الأداءِ مشيًا على الأقدامِ، فلم تُشْتَرَطِ الرَّاحِلَة (15) .
المَطْلَب الثَّالِث: الحاجاتُ الأصليَّةُ التي يُشتَرَط أن تَفْضُلَ عن الزَّاد والرَّاحِلَة:
الحاجة الأُولى: نفقَةُ عيالِه ومَن تَلْزَمُه نفقَتُهم، مدَّةَ ذَهابِه وإيابِه.
الحاجة الثَّانية: ما يحتاجُ إليه هو وأهلُه مِن مَسْكَنٍ، ومِمَّا لا بدَّ لِمِثْلِه؛ كالخادِمِ، وأثاثِ البَيْتِ، وثيابِه؛ بقَدْرِ الاعتدالِ المناسِبِ له في ذلك.
الحاجة الثَّالِثة: قضاءُ الدَّينِ الذي عليه، لأنَّ الدَّينَ من حقوقِ العِبادِ، وهو من حوائِجِه الأصليَّة، فهو آكَدُ، وسواءٌ كان الدَّينُ لآدميٍّ أو لحقِّ اللهِ تعالى؛ كزكاةٍ في ذِمَّتِه، أو كفَّارات ونحوِها (16) .
المَطْلَب الرَّابِع: هل يُقَدِّمُ الحَجَّ أو الزَّواجَ؟
مَن وجَب عليه الحَجُّ وأراد أن يتزوَّجَ، وليس عنده من المالِ إلَّا ما يكفي لأحدِهما، فإنْ تاقت نفْسُه إلى الزَّواجِ وخاف مِنَ الزِّنا؛ قدَّمَ الزواجَ على الحَجِّ، وهذا مَذْهَبُ الجُمْهورِ: الحَنَفيَّة (17) ، والمالِكِيَّة (18) ، والحَنابِلَة (19) ، وحُكِيَ الإجماعُ على ذلك (20) .
وذلك للآتي:
أوَّلًا: أنَّ مَنِ اشتدَّت حاجَتُه إلى الزواجِ وجَبَتْ عليه المبادَرَةُ به قبل الحَجِّ؛ لأنَّه في هذه الحالِ لا يُسمَّى مُستطيعًا (21) .
ثانيًا: أنَّ في التزويجِ تحصينَ النَّفْسِ الواجِبَ، ولا غِنَى به عنه؛ كنَفَقَتِه، والاشتغالُ بالحَجِّ يُفَوِّتُه (22) .
ثالثا: أنَّ في تَرْكِه النِّكاحَ أمرَينِ: تَرْكَ الفَرْضِ، وهو النِّكاحُ الواجِبُ، والوقوعَ في المُحَرَّمِ، وهو الزِّنا (23) .

الوافي 14-07-2021 03:49 AM

المَطْلَبُ الأوَّلُ: المرادُ بأَمْنِ الطَّريقِ
المقصودُ بأمْنِ الطَّريقِ أن يكون الغالِبُ في طريقِه السَّلامَةَ؛ آمنًا على نفسِه ومالِه، من وَقْتِ خروجِ النَّاسِ للحَجِّ، إلى رُجوعِه إلى بَلَدِه؛ لأنَّ الاستطاعَةَ لا تَثْبُت دونَه (1) .
المَطْلَب الثَّاني: هل يُشتَرَطُ أمْنُ الطريقِ لوُجوبِ الحَجِّ
مَنِ استوفى شروطَ الحَجِّ ولم يأمَنِ الطَّريقَ؛ فإنَّه لا يجب عليه الحَجُّ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهِيَّةِ الأربَعَةِ: الحَنَفِيَّة (2) ، والمالِكِيَّة (3) ، والشَّافِعِيَّة (4) ، والحَنابِلَة (5) .
الأدلَّة مِنَ الكِتابِ:
قال اللهُ تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران: 97].
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ الوصولَ إلى البيتِ بدونِه لا يُتَصَوَّر إلَّا بمشَقَّةٍ عظيمةٍ، فصار من جملةِ الاستطاعَةِ (6) .

لقَوْلِه تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا.


المَطْلَب الأوَّلُ: المُرادُ بالمَحْرَمِ
مَحْرَمُ المرأةِ هو زَوْجُها أو من يَحْرُم عليها بالتَّأبيدِ؛ بسبب قرابةٍ، أو رَضاعٍ، أو صهْرِيَّة، ويكون مُسْلِمًا بالغًا عاقلًا ثِقَةً مأمونًا؛ فإنَّ المقصودَ من الْمَحْرَم حمايةُ المرأةِ وصيانَتُها والقيامُ بِشَأْنِها (1) .
المَطْلَب الثَّاني:اشتراطُ المَحْرَمِ في حَجِّ الفريضَةِ:
يُشْتَرَطُ لوجوبِ أداءِ الفريضَةِ للمرأةِ رُفْقَةُ الْمَحْرَمِ، وهذا مذهَبُ الحَنَفيَّة (2) ، والحَنابِلَة (3) ، واختارَه ابنُ باز (4) ، وابنُ عُثيمين (5) ، وبه صدرَتْ فتوى اللَّجْنَةِ الدَّائِمَةِ (6) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما: أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم قال: ((لا يحِلُّ لامرأةٍ تؤمِنُ باللهِ واليومِ الآخَرِ، تُسافِرُ مَسيرَةَ ثَلاثِ ليالٍ، إلَّا ومعها ذو مَحْرَمٍ)) (7) .
2- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: سمعْتُ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم يخطُبُ، يقول: ((لا يَخْلُوَنَّ رجلٌ بامرأةٍ إلَّا ومعها ذو مَحْرَمٍ، ولا تسافِرِ المرأةُ إلَّا مع ذي مَحْرَمٍ، فقام رجلٌ، فقال: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ امرَأتي خرجت حاجَّةً، وإنِّي اكْتُتِبْتُ في غزوةِ كذا وكذا، قال: انطَلِقْ فحُجَّ مع امرأَتِك)) (8) .
ثانيًا:أنَّ المرأةَ يُخافُ عليها من السَّفَرِ وَحْدَها الفِتْنَةُ (9) .
المطلب الثالث: اشتراط إذن الزوج في حج النفل
ليس للمرأة الإحرام نفلًا إلا بإذن زوجها (10) ، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة الحنفية (11) ، والمالكية (12) ، والشافعية (13) ، والحنابلة (14) .
وذلك للآتي:
أولًا: لأنَّه تطَوُّعٌ يُفَوِّتُ حَقَّ زَوْجِها (15) فكان لابد من اسئذانه.
ثانيًا: أنَّ طاعَةَ الزَّوجِ فَرْضٌ عليها فيما لا معصيَةَ لله تعالى فيه, وليس في تَرْكِ حَجِّ التطَوُّعِ معصيةٌ (16) .
المَطْلَب الرَّابِع: حُكْمُ مَنْعِ الزَّوجِ امرأتَه مِن حَجِّ الفريضَةِ إذا وَجَدَتْ مَحْرَمًا
ليس للزَّوجِ مَنْعُ امرأَتِه مِن حَجِّ الفَرْضِ إذا استكمَلَتْ شُروطَ الحَجِّ، ووجدت مَحْرَمًا، وهذا مَذْهَبُ الجُمْهورِ: الحَنَفيَّة (17) ، والمالِكِيَّة (18) ، والحَنابِلَة (19) ، وقولٌ للشافِعِيَّةِ (20) ، وهو قولُ أكثَرِ أَهْلِ العِلْم (21) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
عن عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، عَنِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم، قال: ((لا طاعَةَ في معصِيَةِ اللهِ، إنَّما الطَّاعَةُ في المعروفِ)) (22) .
ثانيًا: أنَّ حَقَّ الزَّوجِ لا يُقَدَّمُ على فرائِضِ العَينِ؛ كالصَّلاةِ المفروضَةِ، وصَوْمِ رمضانَ، فليس للزَّوجِ مَنْعُ زوجَتِه منه؛ لأنَّه فَرْضُ عينٍ عليها (23) .
ثالثًا: أنَّ حَقَّ الزَّوجِ مُستَمِرٌّ على الدوام، فلو ملك مَنْعَها في هذا العامِ لَمَلَكَه في كلِّ عامٍ، فيُفْضي إلى إسقاطِ أَحَدِ أركانِ الإِسْلامِ (24) .

عروبة وطن 14-07-2021 03:49 AM

بحث ثري بالفائدة والخير
اتى في موعده المناسب
مليء بمعلومات هامة وقيمة
بارك الله فيك وكتب لك الاجر
واجزل لك العطاء

الوافي 14-07-2021 03:51 AM

يُشتَرَطُ لوجوبِ الحَجِّ على المرأةِ ألَّا تكونَ المرأةُ مُعتَدَّةً في مدَّةِ إمكانِ السَّيرِ للحَجِّ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهِيَّةِ الأربَعَةِ: الحَنَفيَّة (1) ، والمالِكِيَّة (2) ، والشَّافِعِيَّة (3) ، والحَنابِلَة (4) ، وقال به طائفةٌ مِنَ السَّلَفِ (5) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتاب
1- قَوْلُه تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة: 234].
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ المتَوَفَّى عنها زوجُها لا يجوزُ لها أن تخرُجَ مِن بَيْتِها وتسافِرَ للحَجِّ، حتى تَقْضيَ العِدَّةَ؛ لأنَّها في هذه الحالِ غيرُ مُستطيعةٍ؛ لأنَّه يجب عليها أن تترَبَّصَ في البيتِ (6) .
2- قَوْلُه تعالى: لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ [الطلاق: 1].
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ الله تعالى نهى المعْتَدَّاتِ عن الخروجِ مِن بُيُوتهِنَّ (7) .
ثانيًا: مِنَ الآثارِ
عن سعيدِ بنِ المسَيِّبِ: ((أنَّ عُمَرَ بنَ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه كان يَرُدُّ المتوفَّى عنهنَّ أزواجُهنَّ مِنَ البَيْداءِ؛ يَمْنَعُهنَّ الحَجَّ)) (8) .

ثالثًا: أنَّ العدَّةَ في المنزل تَفُوتُ، ولا بَدَلَ لها، والحَجُّ يُمكِنُ الإتيانُ به في غيرِ هذا العامِ، فلا يَفُوتُ بالتَّأخيرِ، فلا تُلْزَمُ بأدائِه، وهي في العِدَّةِ (9) .


المواقيتُ لغةً: جمعُ ميقاتٍ، وهو الوَقتُ المضروبُ للفِعلِ والموضِعِ، ثم استُعيرَ للمكانِ، ومنه مواقيتُ الحَجِّ لمواضِعِ الإحرامِ؛ يقال: هذا ميقاتُ أهْلِ الشَّامِ: للموضِعِ الذي يُحْرِمونَ منه (1) .
المواقيتُ اصطلاحًا: زمانُ النُّسُكِ، ومَوْضِعُ الإحرامِ له (2) .


المبحث الأوَّل: أشْهُرُ الحَجِّ
اختلف أَهْلُ العِلْمِ في تحديدِ أشْهُرِ الحَجِّ على أقوالٍ، أشهَرُها قولانِ:
القول الأوّل: أنَّ أشْهُرَ الحَجِّ هي: شوَّال، وذو القَعْدَةِ، وعَشْرٌ من ذي الحِجَّةِ، وهذا مَذْهَبُ الحَنَفيَّة (1) ، والحَنابِلَة (2) ، وبه قالت طائفةٌ مِنَ السَّلَف (3) ، واختارَه الطَّبريُّ (4) ، وابنُ تيميَّة (5) ، وابنُ باز (6) ، وبه أفتت اللَّجْنَةُ الدَّائِمَةُ (7) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكتاب:
قولُه تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ... البقرة: 197.
وجْهُ الدَّلالَة:
أنَّ ذلك من اللهِ خَبَرٌ عن ميقاتِ الحَجِّ، ولا عَمَلَ للحَجِّ يُعمَل بعد انقضاءِ أيَّامِ مِنًى، ومعلومٌ أنَّه لم يُعْنَ بذلك جميعُ الشَّهْرِ الثَّالِث، وإذا لم يكُنْ مَعْنِيًّا به جميعُه، صحَّ القَوْلُ بأنَّه عَشْرُ ذي الحِجَّةِ (8) .
ثانيًا: مِنَ الآثارِ
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّه قال: ((أشْهُرُ الحَجِّ: شوَّال، وذو القَعْدَةِ، وعَشْرٌ مِن ذي الحِجَّةِ)) (9) .
ثالثًا: لأنَّ يومَ النَّحْرِ فيه رُكْنُ الحَجِّ، وهو طوافُ الزِّيارَةِ، وفيه رَمْيُ جَمرةِ العَقَبةِ، والحَلْقُ والنَّحْرُ، والسَّعْيُ والرُّجوعُ إلى مِنًى، وما بَعْدَه ليس من أَشْهُرِه؛ لأنَّه ليس بوقتٍ لإِحْرامِه ولا لأركانِه (10) .
القول الثاني: أنَّ أشهُرَ الحَجِّ: شوَّال، وذو القَعْدَةِ، وشَهْرُ ذي الحِجَّةِ إلى آخِرِه، وهذا مذهَبُ المالِكِيَّة (11) ، ونُقِلَ عن الشَّافعيِّ في القديمِ (12) ، وبه قالت طائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ (13) ، واختارَه ابنُ حزمٍ (14) ، والوزيرُ ابنُ هُبَيرةَ (15) ، والشَّوْكانيُّ (16) ، وابنُ عُثيمين (17) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتاب
قال اللهُ تعالى الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة: 197].
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ الآيَةَ عَبَّرَت بالجمْعِ (أشْهُر)، وأقَلُّ الجمعِ ثلاثٌ، فلا بدَّ من دخولِ ذي الحِجَّةِ بكمالِه (18) .
ثانيًا: أنَّ من أيَّامِ الحَجِّ اليومَ الحادِيَ عَشَرَ، واليومَ الثَّانيَ عَشَرَ، واليومَ الثَّالِثَ عَشَرَ، يُفْعَلُ فيها من أعمالِ الحَجِّ: الرَّمْيُ، والْمَبِيتُ، فكيف نُخْرِجُها من أشهُرِ الحَجِّ، وهي أوقاتٌ لأعمالِ الحَجِّ؟! (19) .
ثالثًا: أنَّ طَوافَ الإفاضَةِ مِن فرائِضِ الحَجِّ، ويجوز أن يكونَ في ذي الحِجَّةِ كُلِّه بلا خلافٍ منهم; فصَحَّ أنَّها ثلاثةُ أشْهُرٍ (20) .
رابعًا: لأنَّ كُلَّ شهرٍ كان أوَّلُه من أشهُرِ الحَجِّ كان آخِرُه كذلك (21) .
المبحث الثَّاني: الإحرامُ قَبْلَ أشهُرِ الحَجِّ
اختلف أَهْلُ العِلْمِ في حُكْمِ الإحرامِ بالحَجِّ قَبْلَ أشهُرِه على أقوالٍ؛ منها:
القولُ الأوَّلُ: يصِحُّ الإحرامُ بالحَجِّ وينعَقِدُ قبل أشْهُرِ الحَجِّ، لكِنْ مع الكراهَةِ، وهذا مَذْهَبُ الجُمْهورِ: الحَنَفيَّة (22) ، والمالِكِيَّة (23) ، والحَنابِلَة (24) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتاب
1- قال اللهُ تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ [البقرة: 197].
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ معنى الآيةِ: الحَجُّ (حَجُّ) أشهُرٍ معلوماتٍ، فعلى هذا التقديرِ يكونُ الإحرامُ بالحَجِّ فيها أكمَلُ من الإحرامِ به فيما عداها، وإن كان ذاك صحيحًا (25) .
2- قَوْلُه تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقر: 196].
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّه متى أحرَمَ انعقَدَ إحرامُه؛ لأنَّه مأمورٌ بالإتمامِ (26) .
3- قَوْلُه تعالى: يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة: 189].
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ الألِفَ واللَّامَ في الْأَهِلَّةِ للعمومِ، فيقتضي أنَّ سائِرَ الأهِلَّةِ ميقاتٌ للحَجِّ (27) .
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((مِنَ السُّنَّةِ ألَّا يُحْرِمَ بالحَجِّ إلَّا في أشهُرِ الحَجِّ)) (28) .
ثالثًا: أنَّ التَّوقيتَ ضربانِ: توقيت مكانٍ وزمانٍ، وقد ثبت أنَّه لو تقدَّمَ إحرامُه على ميقاتِ المكانِ صَحَّ، فكذا لو تقَدَّمَ على ميقاتِ الزَّمانِ (29) .
رابعًا: أنَّ الإحرامَ بالحَجِّ يصِحُّ في زمانٍ لا يُمكِنُ إيقاعُ الأفعالِ فيه، وهو شوَّال، فعُلِمَ أنَّه لا يختصُّ بزمانٍ (30) .
القول الثاني: أنَّه لا ينعقِدُ إحرامُه بالحَجِّ قَبْل أشْهُرِه، وينعقِدُ عُمْرَةً، وهذا مذهَبُ الشَّافِعِيَّة (31) ، وقولٌ للمالِكِيَّة (32) ، وروايةٌ عن أحمدَ (33) ، وبه قالَتْ طائِفةٌ مِنَ السَّلَف (34) ، واختارَه ابنُ عُثيمين (35) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتاب
قال اللهُ تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ [البقرة: 197].
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ ظاهِرَ الآيَةِ أنَّ ميقاتَ الحَجِّ في أشْهُرِه، فيجب انحصارُ الحَجِّ فيه، فلا يصِحُّ قَبلَه، ولو كان يجوز الإحرامُ للحَجِّ في سائِرِ شُهورِ السَّنَةِ لم يكن للآيَةِ فائِدَةٌ (36) .
ثانيًا: مِنَ الآثارِ
1- عن أبي الزُّبَيرِ قال: ((سُئِلَ جابرٌ: أُهِلُّ بالحَجِّ في غيرِ أشْهُرِ الحَجِّ؟ قال: لا)) (37) .
2- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((لا يُحْرِمُ بالحَجِّ إلَّا في أشْهُرِه؛ فإنَّ مِن سُنَّةِ الحَجِّ أن يُحْرِمَ بالحَجِّ في أشهُرِ الحَجِّ)) (38) .
ثالثًا: أنَّ الإحرامَ نُسُكٌ من مناسِكِ الحَجِّ، فكان مُؤقَّتًا، كالوقوفِ بعَرَفةَ والطَّوافِ (39) .
رابعًا: أنَّه ميقاتٌ للعبادَةِ فلا يصِحُّ قَبْلَه، كما لا تَصِحُّ الصَّلاةُ قبل ميقاتِها (40) .
خامسًا: أنَّ من التزَمَ عبادةً في وقتِ نَظيرَتِها انقلَبَتْ إلى النَّظيرِ؛ مثل أن يصومَ نَذْرًا في أيَّامِ رمضانَ، أو يُصَلِّيَ الفَرْضَ قبل وقْتِه، فإنَّه ينقلِبُ تطوُّعًا (41) .
المبحث الثَّالِث: الميقاتُ الزَّمانيُّ للإحرامِ بالعُمْرَةِ
العُمْرَةُ جائزةٌ في كلِّ وقتٍ من أوقاتِ السَّنَةِ, وفي كلِّ يومٍ من أيَّامِها, وكلِّ ليلةٍ مِن لياليها، وهو مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّة (42) ، والحَنابِلَة (43) ، والظَّاهِريَّة (44) ، وبه قال بَعْضُ السَّلَفِ (45) ، واختاره الشَّوْكانيُّ (46) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عن أبي هريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم قال: ((العُمْرَةُ إلى العُمْرَةِ كفَّارةٌ لِما بينهما والحَجُّ المبرورُ ليس له جزاءٌ إلَّا الجنَّةُ)) (47) .
وجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم حضَّ على العُمْرَةِ، ولم يَحُدَّ لها وقتًا دون وقتٍ؛ لذا فهي مستحبَّةٌ في كلِّ وقتٍ (48) .
ثانيًا: لأنَّ الأصلَ عَدَمُ الكراهَةِ، لاسيما مع عدمِ الدَّليلِ (49) .
المبحثُ الرَّابِعُ: أفضَلُ أوقاتِ العُمْرَةِ
المَطْلَبُ الأوَّلُ: العُمْرَةُ في رمضانَ
العُمْرَة في شَهْرِ رمضانَ مُستحَبَّةٌ، باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهِيَّةِ الأربَعَةِ: الحَنَفيَّة (50) ، والمالِكِيَّة (51) والشَّافِعِيَّة (52) ، والحَنابِلَة (53) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسَلَّم لامرأةٍ من الأنصارِ: ((ما منعَكِ أن تَحُجِّينَ معنا؟، قالت: كان لنا ناضِحٌ، فرَكِبَه أبو فلانٍ وابنُه، لزَوْجِها وابنِها، وتَرَك ناضحًا ننْضِحُ عليه، قال: فإذا كان رمضانُ اعتَمِري فيه؛ فإنَّ عُمْرَةً في رمضانَ حجَّةٌ)) وفي رواية: ((فإن عمرة فيه تعدل حجة)) (54) .
ثانيًا: أنَّه يجتمِعُ في عُمْرَة رمضانَ: أفضَلُ الزَّمانِ، وأفضَلُ البقاعِ (55) .
المَطْلَب الثَّاني: العُمْرَةُ في أشْهُرِ الحَجِّ
تُستحَبُّ العُمْرَةُ في أشْهُرِ الحَجِّ، وهو مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّة (56) وقولُ طائفةٍ مِنَ السَّلَفِ (57) .
وذلك للآتي:
أوَّلًا: أنَّ جميعَ عُمَرِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم كانت في ذي القَعْدَةِ، وما كان اللهُ لِيختارَ لِنَبِيِّه إلَّا الأكمَلَ، وأفضَلَ الأوقاتِ (58) .
ثانيًا: أنَّ العُمْرَةَ في أشهُرِ الحَجِّ نظيرُ وقوعِ الحَجِّ في أشهُرِه، وهذه الأشهُرُ قد خصَّها اللهُ تعالى بهذه العبادَةِ، وجعَلَها وقتًا لها، والعُمْرَةُ حجٌّ أصغَرُ، فأَوْلى الأزمِنَةِ بها أشهُرُ الحَجِّ، وذو القَعْدَة أوسَطُها (59) .

الوافي 14-07-2021 03:52 AM

أصنافُ النَّاسِ باعتبارِ مَوضِعِ الإحرامِ ثلاثةٌ:
الصِّنفُ الأوَّل: الآفاقيُّ: مَن كان خارِجَ المواقيتِ.
الصِّنفُ الثَّاني: المِيقاتيُّ: مَن كان بين المواقيتِ والحَرَم.

الصِّنفُ الثَّالِث: المكِّيُّ: مَن كان مِنْ أهلِ مكَّةَ أو أهْلِ الحَرَمِ.


المَطْلَب الأوَّل: مواقيتُ الآفاقيِّ
أوَّلًا: تعريفُ الآفاقيِّ:
الآفاقيُّ: هو من كان منزِلُه خارِجَ منطِقَةِ المواقيتِ (1) .
ثانيًا: مواقيتُ الآفاقيِّ:
تَتنوَّعُ مواقيتُ الآفاقِ باعتبارِ جِهَتِها من الحَرَم؛ فلكُلِّ جِهةٍ ميقاتٌ مُعيَّنٌ، ويرجِعُ كلامُ أَهْل العِلْم في المواقيتِ إلى سِتَّةِ مواقيتَ:
الميقاتُ الأوَّلُ: ذو الحُليفةِ: ميقاتُ أهْلِ المدينةِ، ومَن مَرَّ بها مِن غيرِ أهْلِها، وهو موضِعٌ معروفٌ في أوَّلِ طريقِ المدينَةِ إلى مكَّةَ، بينه وبين المدينةِ نحوُ سِتَّةِ أميالٍ (13 كيلومترًا تقريبًا)، وبينه وبين مكَّة نحوُ مائِتَي مِيلٍ تقريبًا (408 كيلومترًا تقريبًا)، فهو أبعَدُ المواقيتِ من مكَّة (2) ، وتُسمَّى الآن (آبارَ عليٍّ) (3) ، ومنها أحرَمَ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم لحَجَّةِ الوداعِ (4) .
الميقاتُ الثَّاني: الجُحْفَةُ: ميقاتُ أهْلِ الشَّامِ، ومَن جاء مِن قِبَلِها: مِنْ مِصْرَ، والمغْرِب، ومَن وراءَهم، وهي قريةٌ كبيرةٌ على نحو (186 كيلومترًا تقريبًا) من مكَّة، سُمِّيَتْ جُحْفةً؛ لأنَّ السَّيلَ جَحَفَها في الزَّمنِ الماضي، وحَمَلَ أهْلَها (5) ، وهي التي دعا النبيُّ صلَّى الله عليه وسَلَّم أنْ يُنقَلَ إليها حُمَّى المدينةِ، وكانت يومئذٍ دارَ اليهودِ، ولم يكن بها مُسلِمٌ، ويُقالُ: إنَّه لا يَدْخُلُها أحدٌ إلَّا حُمَّ، وقد اندثَرَت، ولا يكاد يَعْرِفُها أحدٌ، ويُحرِمُ الحُجَّاجُ الآن من (رابغ)، وهي تقعُ قبل الجُحْفَة بيسيرٍ إلى جهَةِ البَحرِ، فالْمُحْرِمُ من (رابغ) مُحْرِمٌ قبل الميقاتِ، وقيل: إنَّ الإحرامَ منها أحوَطُ لعَدَمِ التيقُّنِ بمكانِ الجُحفَةِ (6) .
الميقاتُ الثَّالِثُ: قَرْنُ المنازِلِ (السَّيلُ الكَبيرُ): ميقاتُ أهْلِ نَجْدٍ (7) ، و(قَرْن) جبلٌ مُطِلٌّ على عَرفاتٍ، ويقال له: قَرْن المُبارَك، بينه وبين مكَّةَ نحو أربعينَ مِيلًا (78 كيلومترًا تقريبًا)، وهو أقرَبُ المواقيتِ إلى مكَّةَ (8) .
الميقاتُ الرَّابِع: يَلَمْلَمُ: ميقاتُ أهلِ اليمَنِ وتِهامَةَ، ويلملَمُ: جبلٌ من جبالِ تِهامَةَ، جنوبَ مكَّةَ، وتقع على نحو (120كيلومترًا تقريبًا) من مكَّةَ (9)
الميقاتُ الخامِسُ: ذاتُ عِرْقٍ: ميقاتُ أهْلِ العِراقِ، وسائِرِ أهْلِ المَشْرِقِ، وهي قريةٌ بينها وبين مكَّة اثنان وأربعون ميلًا، (100 كيلومترٍ تقريبًا) وقد خَرِبَتْ (10) .
أَدِلَّةُ تحديدِ هذه المواقيتِ الخَمْسَةِ:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((وقَّتَ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم لأهلِ المدينةِ ذا الحُلَيفة، ولأهل الشَّامِ الجُحْفةَ، ولأهل نَجْدٍ قَرْنَ المنازِلِ، ولأهْلِ اليَمَنِ يَلَمْلَمَ، فهُنَّ لهُنَّ، ولِمَن أتى عليهِنَّ مِن غيرِ أهْلِهِنَّ، لِمَن كان يريد الحَجَّ والعُمْرَةَ، فمن كان دونَهنَّ فمُهَلُّه من أهْلِه، وكذاك حتى أهْلُ مكَّةَ يُهِلُّونَ منها)) (11) .
2- عَنْ عبدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم قال: ((يُهِلُّ أهْلُ المدينةِ مِن ذي الحُلَيفَةِ، وأهْلُ الشَّامِ مِنَ الجُحفةِ، وأهلُ نجْدٍ مِن قَرْنٍ. قال عبدُ الله- يعني ابنَ عُمرَ- وبلغني أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم قال: ويُهِلُّ أهلُ اليَمَنِ مِن يَلَمْلَمَ)) (12) .
3- عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم أُتِيَ وهو في مُعَرَّسِه مِن ذي الحُليفةِ في بطنِ الوادي، فقيل: إنَّك ببَطْحاءَ مباركَةٍ، قال موسى: وقد أناخ بنا سالمٌ بالْمُناخِ من المسجِدِ الذي كان عبدُ الله يُنِيخُ به؛ يتحَرَّى مُعَرَّسَ رَسولِ الله صلَّى الله عليه وسَلَّم، وهو أسفَلُ مِن المسجِدِ الذي ببطْنِ الوادي، بينه وبين القبلةِ، وَسَطًا من ذلك)) (13) .
4- عن عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سمعْتُ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم بوادي العقيقِ يقول: ((أتاني الليلةَ آتٍ مِن ربِّي، فقال: صلِّ في هذا الوادي المُبارَكِ، وقل: عُمْرَةً في حَجَّةٍ)) (14) .
ثانيًا: مِنَ الإجماعِ
نقلَ الإجماعَ على ذلك: ابنُ المُنْذِرِ (15) ، وابنُ حَزْمٍ (16) ، وابنُ عَبْدِ البَرِّ (17) ، وابنُ رُشدٍ (18) ، وابنُ قُدامة (19) ، والنَّوَوِيُّ (20) .
الميقاتُ السَّادِسُ: العقيقُ (21) : وادٍ وراءَ ذاتِ عِرْقٍ مِمَّا يلي المشْرِقَ، عن يسارِ الذَّاهِبِ من ناحِيَةِ العِراقِ إلى مكَّةَ، ويُشْرِفُ عليها جَبَلُ عِرْقٍ.
اختلف أَهْلُ العِلْمِ في الإحرامِ من العقيق على قولينِ:
القولُ الأوَّل: الاقتصارُ على استحبابِ الإحرامِ من ذاتِ عِرْق، وهو يقعُ بعد العقيق، وهذا مذهَبُ الجُمْهورِ (22) مِنَ الحَنَفيَّة (23) ، والمالِكِيَّة (24) ، والحَنابِلَةِ (25) .
وذلك للآتي:
أولًا: إجماعُ النَّاسِ على أنَّهم إذا جاوَزوا العقيقَ إلى ذاتِ عِرْق، فإِنَّه لا دَمَ عليهم، ولو كان ميقاتًا لوَجَبَ الدَّمُ بِتَرْكِه (26) .
ثانيًا: إجماعُ النَّاسِ على ما فَعَلَه عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنه من توقيتِ ذاتِ عِرْق، وهو بَعْد العقيقِ (27) .
القول الثاني: استحبابُ الإحرامِ مِنَ العَقيقِ لأهلِ المَشْرِق، وهذا مذهَبُ الشَّافِعِيَّة (28) ، وبعض الحَنَفيَّة (29) ، وبه قال بعضُ السَّلَفِ (30) ، واستحسَنَه ابنُ المُنْذِر (31) , وابنُ عَبْدِ البَرِّ (32) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الآثار
عن يحيى بن سيرين: أنه حج مع أنس بن مالك رضي الله عنه فحدثنا: (أنه أحرم من العقيق) (33)
ثانيًا: أنَّ الإحرامَ مِنَ العقيقِ فيه احتياطٌ، وسلامةٌ مِنَ الالتباسِ الواقِعِ في ذاتِ عِرْق؛ لأنَّ ذاتَ عِرْقٍ قريةٌ خَرِبَت، وحُوِّلَ بناؤُها إلى جهَةِ مكَّةَ، فالاحتياطُ الإحرامُ قبل موضِعِ بنائِها (34) .
ثالثًا: أنَّ العقيقَ أبعَدُ من ذاتِ عِرْقٍ، فكان أَوْلى (35) ؛ فإنَّ تحديدَ المواقيتِ وتعيينَها للمَنْعِ عن مجاوَزَتِها بلا إحرامٍ، لا عن الإحرامِ قبلَ وُرودِها (36) .
المَطْلَب الثَّاني: الإحرامُ من الميقاتِ لِمَن مرَّ منه قاصدًا النُّسُك:
يجبُ الإحرامُ من الميقاتِ لِمَن مرَّ منه قاصدًا أحَدَ النُّسُكينِ: الحَجَّ أو العُمْرَةَ.
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((وقَّتَ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم لأهلِ المدينةِ ذا الحُلَيفة، ولأهل الشَّامِ الجُحْفةَ، ولأهل نَجْدٍ قَرْنَ المنازِلِ، ولأهْلِ اليَمَنِ يَلَمْلَمَ، فهُنَّ لهُنَّ، ولِمَن أتى عليهِنَّ مِن غيرِ أهْلِهِنَّ، لِمَن كان يريد الحَجَّ والعُمْرَةَ، فمن كان دونَهنَّ فمُهَلُّه من أهْلِه، وكذاك حتى أهْلُ مكَّةَ يُهِلُّونَ منها)) (37)
2- عَنْ عبدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم قال: ((يُهِلُّ أهْلُ المدينة من ذي الحُليفةِ، وأهلُ الشَّامِ من الجُحْفةِ، وأهلُ نجْدٍ من قَرْنٍ. قال عبد الله- يعني ابنَ عُمَرَ- وبلغني أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم قال: ويُهِلُّ أهلُ اليَمَنِ من يَلَمْلَمَ)) (38) .
وَجْهُ الدَّلالَةِ مِنْ هَذينِ الحَديثَينِ:
أنَّه صلَّى الله عليه وسَلَّم وقَّتَ المواقيتَ، فقال: ((فهُنَّ لهُنَّ، ولِمَن أتى عليهِنَّ مِن غيرِ أهْلِهِنَّ، لِمَن كان يريد الحَجَّ والعُمْرَةَ))، وفائدة التَّأقيتِ المنعُ من تأخيرِ الإحرامِ عنها، وعلى ذلك جرى عمَلُ المسلمينَ (39) .
3- عن عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سمعْتُ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم بوادي العقيقَ يقول: ((أتاني الليلةَ آتٍ من ربِّي، فقال: صلِّ في هذا الوادي المُبارَك، وقل: عُمْرَةً في حجَّةٍ)) (40) .
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم أحرَمَ من الميقاتِ، والأَصْلُ في دَلالةِ الأَمرِ الوجوبُ، ولم يُنقَلْ عنه صلَّى الله عليه وسَلَّم ولا عن أحَدٍ من أصحابِه أنَّهم تجاوَزوها بغيرِ إحرامٍ (41) .
ثانيًا: مِنَ الإجماعِ
نقلَ الإجماعَ على ذلك النَّوَوِيُّ (42) ، والزيلعيُّ (43) .
المَطْلَب الثَّالِث: مَن سَلَك طريقًا ليس فيه ميقاتٌ مُعَيَّنٌ، بَرًّا أو بَحرًا أو جَوًّا:
مَن سَلك طريقًا ليس فيه ميقاتٌ مُعَيَّن، برًّا أو بَحرًا (44) ، اجتهد وأحرَمَ إذا حاذى ميقاتًا من المواقيتِ، وذلك باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهِيَّةِ الأربَعَةِ: الحَنَفيَّة (45) ، والمالِكِيَّة (46) ، والشَّافِعِيَّة (47) ، والحَنابِلَة (48) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الآثارِ
عن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عنهما قال: ((لَمَّا فُتِحَ هذان المِصرانِ أتَوْا عُمَرَ، فقالوا: يا أميرَ المؤمنينَ، إنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حَدَّ لأهلِ نجدٍ قَرنًا، وهو جَورٌ عن طريقِنا، وإنَّا إن أرَدْنا قَرنًا شَقَّ علينا. قال: فانظُروا حَذْوَها من طريقِكم. فحَدَّ لهم ذاتَ عِرقٍ)) (49)
ثانيًا: لأنَّ مَن أراد الحَجَّ أو العُمْرَةَ إذا مرَّ بميقاتٍ لَزِمَه الإحرامُ منه، فإذا حاذاه صار كالمارِّ به (50) .
المطلب الرابع: مَن سَلَك طريقًا ليس فيه ميقاتٌ مُعَيَّنٌ واشتبهَتْ عليه المُحاذاةُ
مَن سَلَك طريقًا ليس فيه ميقاتٌ مُعَيَّنٌ، برًّا أو بحرًا أو جوًّا، فاشتبه عليه ما يحاذي المواقيتَ ولم يجِدْ مَن يُرشِدُه إلى المحاذاةِ؛ وجَبَ عليه أن يحتاطَ ويُحْرِمَ قبل ذلك بوَقْتٍ يَغْلِبُ على ظَنِّه أنَّه أحرَمَ فيه قبل المحاذاةِ؛ وليس له أن يؤخِّرَ الإحرامَ، وبهذا صدَرَ قرارُ مَجْمَع الفِقْهِ الإِسْلاميِّ (51) ، وبه أفتى ابنُ باز (52) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتاب
قال اللهُ تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16].
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ اللهَ سبحانه أوجَبَ على عبادِه أن يتَّقوه ما استطاعوا، وهذا هو المُستطاعُ في حَقِّ مَن لم يمرَّ على نَفْسِ الميقاتِ (53) .
ثانيًا: أنَّ الإحرامَ قبل الميقاتِ جائِزٌ مع الكراهَةِ ومُنْعَقِدٌ، ومع التَّحرِّي والاحتياطِ خوفًا من تجاوُزِ الميقاتِ بغيرِ إحرامٍ تزولُ الكراهةُ؛ لأنَّه لا كراهةَ في أداءِ الواجِبِ (54) .
المَطْلَب الخامس: هل جُدَّةُ ميقاتٌ؟
جُدَّةُ ليست ميقاتًا، ولا يجوزُ لأحدٍ أن يتجاوَزَ ميقاتَه ويُحْرِمَ مِن جُدَّةَ، إلَّا أنْ لا يحاذِيَ ميقاتًا قبلها؛ فإنَّه يُحْرِمُ منها، كمن قَدِمَ إليها عن طريقِ البَحرِ من الجزءِ المحاذي لها من السُّودان؛ لأنَّه لا يصادِفُ ميقاتًا قبلها، وهذا اختيارُ ابنِ باز (55) ، وابنِ عُثيمين (56) ، وبه صدرت فتوى اللَّجْنَة الدَّائِمَة (57) ، وقرارُ هيئةِ كبارِ العُلَماءِ (58) ، والمجمَعِ الفِقْهِيِّ الإِسْلاميِّ (59) .
الأدلَّة:
أولا مِنَ السُّنَّةِ:
1- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((وقَّتَ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم لأهلِ المدينةِ ذا الحُلَيفة، ولأهل الشَّامِ الجُحْفةَ، ولأهل نَجْدٍ قَرْنَ المنازِلِ، ولأهْلِ اليَمَنِ يَلَمْلَمَ، فهُنَّ لهُنَّ، ولِمَن أتى عليهِنَّ مِن غيرِ أهْلِهِنَّ، لِمَن كان يريد الحَجَّ والعُمْرَةَ، فمن كان دونَهنَّ فمُهَلُّه من أهْلِه، حتى أهْلُ مكَّةَ يُهِلُّونَ منها)) (60) .
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم حدَّدَ المواقيتَ، وقال: ((هُنَّ لهُنَّ، ولِمَن أتى عليهِنَّ مِن غيرِ أهْلِهِنَّ، لِمَن كان يريد الحَجَّ والعُمْرَةَ)) فلا يجوز للحاجِّ والمعتَمِرِ أن يختَرِقَ هذه المواقيتَ إلى جُدَّةَ بدون إحرامٍ ثم يُحْرِمَ منها؛ لأنَّها داخِلَ المواقيتِ (61) .
2- عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((لَمَّا فُتِحَ هذان المِصْرانِ- أي: الكوفةُ والبَصْرةُ- أتَوْا عُمَرَ، فقالوا: يا أميرَ المؤمنينَ، إنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم حدَّ لأهْلِ نَجْدٍ قَرْنًا، وهو جَوْرٌ عن طريقِنا، وإنَّا إن أرَدْنا قَرْنًا شَقَّ علينا، فقال: انظُرُوا حَذْوَها من طريقِكم، فحَدَّ لهم ذاتَ عِرْقٍ)) (62) .
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ الإحرامَ يكون في الميقاتِ أو حَذْوَه، فلا يجوزُ تأخيرُ الإحرامِ إلى جُدَّةَ (63) ).
ثانيًا: لأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم وقَّتَ المواقيتَ لِمُريدِي الحَجِّ والعُمْرَةِ مِن سائِرِ الأمصارِ، ولم يجعَلْ جُدَّةَ مِيقاتًا لِمَن تَوَجَّه إلى مَكَّةَ مِن سائِرِ الأمصارِ والأقاليمِ (64) .
المَطْلَب السادس: حُكْمُ تجاوُزِ المِيقاتِ للمُحْرِمِ بِدونِ إِحْرامٍ
الفَرْعُ الأوَّلُ: مَن تجاوَزَ الميقاتَ بِغَيرِ إحرامٍ ولم يَرْجِعْ للإحرامِ مِن الميقاتِ
مَن كان مريدًا لنُسُكِ الحَجِّ أو العُمْرَةِ، وتجاوَزَ الميقاتَ بغيرِ إحرامٍ، فإنَّه يجِبُ العَوْدُ إليه، والإحرامُ منه، فإن لم يَرْجِعْ أَثِمَ (65) ووجب عليه الدَّمُ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهِيَّةِ الأربَعَةِ: من الحَنَفيَّة (66) ، والمالِكِيَّة (67) والشَّافِعِيَّة (68) ، والحَنابِلَة (69) .
الأدلَّة:
دليلُ وُجوبِ الرُّجوعِ:
أنَّه نُسُكٌ واجِبٌ أمكَنَه فِعْلُه، فلَزِمَه الإتيانُ به كسائِرِ الواجباتِ (70) .
دليلُ وُجوبِ الدَّمِ عليه:
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((من نسي من نسكه شيئا، أو تركه فَلْيُهْرِقْ دمًا)) (71) .
الفَرْعُ الثَّاني: من تجاوَزَ الميقاتَ بغَيرِ إحرامٍ ثُمَّ رَجَعَ إلى الميقاتِ فأحرَمَ مِنْه
من تجاوَزَ الميقاتَ بغَيرِ إحرامٍ ثُمَّ رَجَعَ إلى الميقاتِ فأحرَمَ مِنْه؛ فلا دَمَ عليه (72) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الإجماعِ
نقلَ الإجماعَ على ذلك: الماوردي (73) ، والكاسانيُّ (74) ، وابنُ قُدامة (75) .
ثانيًا: لأنَّه أحرَمَ من الميقاتِ الذي أُمِرَ بالإحرامِ منه، فلم يلزَمْه شيءٌ؛ لأنَّه أتى بالواجِبِ عليه، كما لو لم يجاوِزْه ابتداءً (76) .
ثالثًا: لأنَّه لم يَتْرُكِ الإحرامَ من الميقاتِ ولم يَهْتِكْه، فلم يجِبْ عليه شيءٌ (77) .
الفرع الثَّالِث: من أحرَمَ بعد الميقاتِ، ثم رجَعَ إلى الميقاتِ
من أحرم بعدَ الميقاتِ، ثمَّ رجع إلى الميقاتِ؛ فإنَّه لا يَسقُطُ عنه الدَّمُ، وهذا مَذْهَبُ المالِكِيَّةِ (78) ، والحَنابِلَة (79) ، وبه قال زُفَرُ من الحَنَفيَّة (80) ، وهو قولُ ابنِ المُبارَك (81) , واختيارُ الشِّنْقيطيِّ (82) , وابنِ باز (83) , وابنِ عُثيمين (84) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الآثارِ
- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((من تَرَك شيئًا مِن نُسُكِه فَلْيُهْرِقْ دمًا)) (85) .
ثانيًا: أنَّ الدَّمَ استقرَّ عليه بتَرْكِ واجِبِ الإحرامِ من الميقاتِ، ولا يزول هذا برجوعِه، أمَّا إذا رجع قبل إحرامِه منه؛ فإنَّه لم يَتْرُكِ الإحرامَ منه، ولم يَهْتِكْه (86) .
الفرع الرَّابِع: إذا جاوز الميقاتَ غَيْرَ مُريدٍ نُسُكًا ثم أرادَه
إذا جاوز الميقاتَ غَيْرَ مريدٍ نُسُكًا، ثم أراده؛ فإنَّه يُحْرِمُ مِن مَوْضِعِه، وهو مَذْهَبُ المالِكِيَّة (87) ، والشَّافِعِيَّة (88) ، وبه قال ابنُ حَجَرٍ (89) ، والشَّوْكانيُّ (90) ، واختارَه ابنُ عُثيمين (91) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، عَنِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم كما في حديثِ المواقيتِ: ((ومَن كان دون ذلك فمِن حيثُ أنشَأَ، حتى أهْلُ مَكَّةَ مِن مَكَّةَ)) (92) ، وهذا أنشأَ النِّيَّةَ مِن دون المواقيتِ، فمِيقاتُه مِن حيثُ أنشَأَ.
ثانيًا: عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّه أحرَمَ من الفُرُعِ)) (93) ، والفُرُعُ: بلادٌ بين ذي الحُلَيفة وبين مَكَّة، فتكون دونَ ميقاتِ المَدَنيِّ، وابن عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما مَدَنيٌّ، وتأويلُه: أنَّه خرج من المدينَةِ إلى الفُرُعِ لحاجَةٍ، ولم يَقْصِدْ مَكَّة، ثم أراد النُّسُكَ؛ فكان ميقاتُه مكانَه (94) .
ثالثًا: أنَّ مَن وَصَل إلى مكانٍ على وَجْهٍ مشروعٍ، صار حكْمُه حُكْمَ أَهْلِه (95) .
الفرع الخامِسُ: المرورُ من الميقاتِ لحاجَةٍ غَيْرِ النُّسُكِ
مَسْألةٌ: حُكْمُ الإحرامِ لِمَن جاوَزَ الميقاتَ إلى الحِلِّ لحاجةٍ غَيْرِ النُّسُكِ
مَن جاوَزَ الميقاتَ لا يُريدُ نُسُكًا، ولا يريد دُخولَ الحَرَمِ فلا يجِبُ عليه الإحرامُ.
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
قولُه عليه الصَّلاةُ والسَّلام: ((فهُنَّ لهُنَّ، ولِمَن أتى عليهِنَّ مِن غَيْرِ أهْلِهِنَّ، لِمَن كان يريدُ الحَجَّ والعُمْرَةَ)) (96) .
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ مفهومَ الحديثِ يدُلُّ على أنَّ مَن لم يُرِدِ الحَجَّ والعُمْرَةَ، يجوزُ له أن يتجاوَزَ الميقاتَ بِغَيرِ إحرامٍ (97) .
ثانيًا: مِنَ الإجماعِ
نقلَ الإجماعَ على ذلك ابنُ قُدامة (98) .
مَسْألةٌ: حُكْمُ الإحرام ِلِمَن جاوزَ الميقاتَ إلى مَكَّةَ لحاجَةٍ غَيْرِ النُّسُكِ
مَن جاوَزَ الميقاتَ بِقَصْدِ دُخولِ مَكَّةَ لغَيْرِ النُّسُكِ؛ فإنَّه لا يجِبُ عليه الإحرامُ، وهو مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّة (99) ، والظَّاهِريَّة (100) ، وهو روايةٌ عنْ أحمَدَ (101) ، وبه قالَتْ طائِفةٌ مِنَ السَّلَفِ (102) ، وهو ظاهِرُ تَبويبِ البُخاريِّ (103) ، واختارَه ابنُ القَيِّمِ (104) , والشِّنْقيطيُّ (105) ، وابنُ باز (106) ، وابنُ عُثيمين (107) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم قال في شَأْنِ المواقيتِhttp://hamsatq.com/vb/images/smilies/frown.gif(هنَّ لهنَّ، ولِمَن أتى عليهِنَّ مِن غَيرِ أهلهِنَّ ممَّن كان يريدُ حجًّا أو عُمْرَةً)) (108) .
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ مفهومَ الحديثِ يدُلُّ على أنَّ مَن لم يُرِدِ الحَجَّ والعُمْرَةَ، يجوز له أن يتجاوَزَ الميقاتَ بغيرِ إحرامٍ، ولو وجَبَ بمجَرَّدِ الدُّخولِ لَمَا عَلَّقَه على الإرادَةِ (109) .
2- عن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم دخلَ مَكَّةَ يومَ الفَتْحِ وعليه عِمامَةٌ سوداءُ بغيرِ إحرامٍ)) (110) ، وعن أنسٍ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم دخل مَكَّةَ عامَ الفَتْحِ وعلى رأْسِه مِغْفَرٌ)) (111) .
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم دخل مَكَّةَ عام الفتْحِ حَلالًا غيرَ مُحْرِمٍ، وكذا أصحابُه، فدَلَّ على عَدَمِ لُزُوم الإحرامِ لِمَن دخَلَ مَكَّة (112) .
ثانيًا: أنَّ اللهَ تعالى لم يأمُرْ قَطُّ, ولا رسولُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بأنْ لا يُدْخَلَ مَكَّةَ إلَّا بإحرامٍ، فهو إلزامُ ما لم يأْتِ في الشَّرْعِ إلزامُه (113) .
ثالثًا: أنَّه قد ثبتَ بالاتِّفاقِ أنَّ الحَجَّ- والعُمْرَةَ عند من أوجَبَها- إنَّما يجِبُ مرَّةً واحدةً، فلو أوجَبْنا على كُلِّ مَن دخَلَ مَكَّةَ أو الحرَمَ أن يحُجَّ أو يعتَمِرَ؛ لوجب أكثرَ مِن مَرَّةٍ (114) .
رابعًا: أنَّه تحيَّةٌ لبُقْعَةٍ، فلم تجِبْ كتحِيَّةِ المسجِدِ (115) .
مسألَةُ المُرورِ بمِيقاتَينِ:
لا يجوزُ لِمُريدِ النُّسُكِ أن يتجاوَزَ أوَّلَ ميقاتٍ يَمُرُّ عليه إلى ميقاتٍ آخَرَ، سواءٌ كان أقربَ إلى مَكَّةَ أو أبعَدَ؛ مثل أن يترُكَ أهْلُ المدينةِ الإحرامَ مِن ذي الحُليفَةِ حتى يُحْرِموا من الجُحْفَةِ، أو أن يتركَ أهْلُ الشَّامِ الإحرامَ من الجُحْفةِ إلى ذي الحُلَيفةِ، وهذا مَذْهَبُ الجُمْهورِ مِنَ المالِكِيَّة (116) ، والشَّافِعِيَّة (117) ، والحَنابِلَة (118) ، وهو قَوْلُ طائفةٍ مِنَ السَّلَفِ (119) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم قال في المواقيت: ((فهنَّ لهنَّ، ولِمَن أتى عليهنَّ مِن غيرِ أهلِهنَّ لمن كان يريد الحَج والعُمْرَة)) (120) .
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ قَوْلَه: ((ولِمَن أتى عليهنَّ مِن غيرِ أهلِهنَّ)) عامٌّ فيمن أتى، يدخُلُ تحته مَن ميقاتُه بين يَدَيْ هذه المواقيتِ التي مرَّ بها، ومَنْ ليس ميقاتُه بين يَدَيْها؛ فلا يجوزُ أن يُجاوِزَهُنَّ غيرَ مُحْرِمٍ (121) .
ثانيًا: أنَّ هذه المواقيتَ مُحيطةٌ بالبيتِ كإحاطَةِ جوانِبِ الحَرَمِ، فكلُّ من مرَّ بجانِبٍ مِن جوانِبِه لَزِمَه تعظيمُ حُرْمَتِه، وإن كان بعضُ جوانِبِه أبعَدَ مِن بعضٍ (122) .
المَطْلَب السابع: حُكْمُ التقَدُّمِ بالإحرامِ قَبلَ المواقيتِ المَكانِيَّةِ:
يجوزُ (123) التقدُّمُ بالإحرامِ قبل المواقيتِ المكانيَّة، لكِنْ مع الكراهَةِ، وهو مَذْهَبُ المالِكِيَّةِ (124) ، والحَنابِلَةِ (125) ، واختارَه ابنُ باز (126) ، وابنُ عُثيمين (127) .
وذلك للآتي:
أوَّلًا: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم حجَّ واعتَمَر، وترك الإحرامَ مِن بَيْتِه، ومِن مَسْجِدِه مع فَضْلِه، وأحرَمَ مِنَ الميقاتِ، ولا يَفْعَلُ إلَّا الأفضَلَ (128) .
ثانيًا: أنَّه لو كان الأفضَلُ الإحرامَ مِن قَبْلِ الميقاتِ، لكان أصحابُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم وخلفاؤُه يُحْرِمونَ مِن بُيوتِهم، ولَمَا تَواطَؤُوا على تَرْكِ الأَفضَلِ، واختيارِ الأَدْنى، وهم أهْلُ التَّقوى والفَضْلِ، وأفضَلُ الخَلْقِ، ولهم مِنَ الحِرْصِ على الفضائِلِ والدَّرجاتِ ما لهم (129) .
ثالثًا: إنكارُ عُمَرَ وعُثمانَ رَضِيَ اللهُ عنهما الإحرامَ قَبْلَ المواقيتِ:
1- عن الحَسَنِ ((أنَّ عِمْرانَ بْنَ الحُصَينِ أحرَمَ مِنَ البَصرَةِ، فلمَّا قَدِمَ على عُمَرَ- وقد كان بلَغَه ذلك- أغلَظَ له، وقال: يتحدَّثُ النَّاسُ أنَّ رَجُلًا مِن أصحابِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم أحرَمَ مِن مِصْرٍ مِنَ الأمصارِ)) (130) .
2- (أحرَمَ عبدُ اللهِ بنُ عامِرٍ مِن خُراسانَ، فلمَّا قَدِمَ على عُثمانَ لامَهُ فيما صنَعَ، وكَرِهَه له (131) ) (132) .
خامسًا: أنَّه تغريرٌ بالإحرامِ وتَعَرُّضٌ لفِعْلِ محظوراتِه، وفيه مشقَّةٌ على النَّفْسِ، فكُرِهَ كالوِصالِ في الصَّوْمِ (133) .
المَطْلَبُ الثامن: الحَيْضُ والنِّفاسُ لا يمنَعُ من إحرامِ المرأةِ مِنَ الميقاتِ
لا يجوزُ للمرأةِ التي تريدُ النُّسُكَ مجاوزَةُ الميقاتِ دون إحرامٍ، ولو كانت حائضًا، وعليها أن تُحْرِمَ، وإحرامُها صحيحٌ.
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((... فخَرَجْنا معه، حتى أتَيْنا ذا الحُلَيفةِ، فولَدَت أسماءُ بنتُ عُمَيسٍ محمَّدَ بنَ أبي بكرٍ، فأرسَلَتْ إلى رسولِ الله صلَّى الله عليه وسَلَّم: كيف أصنَعُ؟ قال: اغتَسِلي واستَثْفِري (134) بثوبٍ وأَحْرِمي)) (135) .
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّه أمَرَ النُّفَساءَ بالاغتسالِ والإحرامِ، ولا فَرْقَ في ذلك بينها وبينَ الحائِضِ؛ فالنِّفاسُ أقوى مِنَ الحَيضِ؛ لامتدادِه وكثْرَةِ دَمِه، ففي الحَيْضِ أَوْلَى (136) .
ثانيًا: مِنَ الإجماعِ
نقلَ الإجماعَ على ذلك ابنُ عَبْدِ البَرِّ (137) ، والنَّوَوِيُّ (138) ، وابنُ رجبٍ (139) .

الوافي 14-07-2021 03:54 AM

المَطْلَب الأوَّلُ: تعريفُ الميقاتِيِّ
الميقاتيُّ هو: من يَسْكُنُ بين المواقِيتِ والحَرَمِ؛ كأهْلِ جُدَّةَ، وقُدَيدٍ، وعُسْفانَ، ومَرِّ الظَّهْرانِ، وبَحْرَة، وأمِّ السَّلَم (1) .
المَطْلَب الثَّاني: مَوْضِعُ إحرامِ الميقاتيِّ
من كان ساكنًا أو نازلًا بين المواقيتِ والحَرَمِ فإنَّ مِيقاتَه مَوْضِعُه، فإنْ جاوَزَه أثِمَ ووَجَبَ عليه الدَّمُ (2) وهذا مَذْهَبُ الجُمْهورِ (3) : من المالِكِيَّة (4) ، والشَّافِعِيَّة (5) ، والحَنابِلَة (6) .
الأدلَّة:
أَوَّلًا: مِنَ السُّنَّة
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، عَنِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم، في حديثِ المواقيتِ: ((ومَنْ كان دون ذلك فمِنْ حَيثُ أنشَأَ، حتى أهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ))، وفي روايةٍ: ((فمَن كان دونَهُنَّ فمِنْ أَهْلِه)) (7) .
ثانيًا: مِنَ الآثارِ

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((من نسي من نسكه شيئا، أو تركه فَلْيُهْرِقْ دَمًا)) (8) .

المَطْلَب الأوَّلُ: تَعريفُ المكِّيِّ
المكيُّ هو: من كان داخِلَ الحَرَمِ عند إرادَةِ الإحرامِ، سواءٌ كان مِن أَهْلِها أو عابِرَ سبيلٍ (1) .
المَطْلَب الثَّاني: ميقاتُ المكِّيِّ للحَجِّ
مَن كان مِنْزِلُه في مَكَّةَ أو الحَرَمِ، فإنَّه يُحْرِمُ مِن مَنْزِلِه؛ سواءٌ كان مُسْتَوطِنًا أو نازلًا.
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، عَنِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم، في حديثِ المواقيتِ: ((ومَن كان دونَ ذلك فمِنْ حيثُ أنشَأَ، حتى أهْلُ مَكَّةَ مِن مَكَّةَ)) (2) .
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ نصَّ الحديثِ يقتضي أنَّ أهْلَ مَكَّةَ يُحرمونَ منها (3) .
2- عن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((أمَرَنا النبيُّ صلَّى الله عليه وسَلَّم لَمَّا أَحْلَلْنا، أنْ نُحْرِمَ إذا توجَّهْنا إلى مِنًى، قال: فأَهْلَلْنا مِنَ الأَبْطَحِ)) (4) .
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ الصَّحابَةَ رَضِيَ اللهُ عنهم الذين حَلُّوا مِن إحرامِهم مع الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسَلَّم أحرموا مِنَ الأَبطحِ، وهو موضِعٌ بمَكَّة (5) .
ثانيًا: مِنَ الإجماعِ
نقلَ الإجماعَ على ذلك ابنُ المُنْذِر (6) ، وابنُ حَزْمٍ (7) ، والقُرطبيُّ (8) ، والنَّوَوِيُّ (9) .
المَطْلَب الثَّالِث: ميقاتُ المكِّيِّ للعُمْرَةِ
ميقاتُ المكِّيِّ للعُمْرَة هو الحِلُّ (10) ، من أيِّ مَوْضِعٍ منه شاءَ، وهذا باتِّفاقِ المذاهِبِ الأَربعَةِ: الحَنَفيَّة (11) ، والمالِكِيَّة (12) ، والشَّافِعِيَّة (13) ، والحَنابِلَة (14) ، وحُكِيَ الإجماعُ على ذلك (15) .
الدليل مِنَ السُّنَّةِ:
عن جابرٍ رَضِيَ الله عنهما: ((أنَّ عائشةَ حاضت فنَسَكَت المناسِكَ كُلَّها، غيرَ أنَّها لم تَطُفْ بالبيتِ. قال: فلمَّا طَهُرَت وطافت، قالت: يا رَسولَ الله، أتنطَلِقونَ بعُمْرَةٍ وحَجَّةٍ، وأنطَلِقُ بالحَجِّ؟ فأمر عبدَ الرَّحمنِ بنَ أبي بكرٍ أن يَخْرُجَ معها إلى التَّنعيمِ، فاعتَمَرَت بعد الحَجِّ في ذي الحِجَّةِ)) (16) .
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أن عائَشَةَ كانت مُقيمةً بمَكَّةَ، فأمَرَها رسولُ اللهِ أن تُحْرِمَ من التَّنعيمِ، وهو أدنى الحِلِّ (17) .


المبحثُ الأوَّلُ: تعريفُ الإحرامِ
الإحرامُ لغةً: هو الدُّخولُ في الحُرْمَةِ، يقال: أحرَمَ الرَّجُلُ: إذا دخَلَ في حُرمَةِ عهْدٍ أو ميثاقٍ؛ فيمتَنِعُ عليه ما كان حلالًا له (1) .
الإحرامُ اصطلاحًا: هو نِيَّةُ الدُّخولِ في النُّسُكِ (2) ، وهذا مَذْهَبُ الجُمْهورِ: مِنَ المالِكِيَّة (3) ، والشَّافِعِيَّة (4) ، والحَنابِلَة (5) .
المبحثُ الثَّاني: حُكْمُ الإحرامِ
الإحرامُ: مِنْ فَرائِضِ النُّسُكِ، حجًّا كان أو عُمْرَةً.
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
عَن عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم قال: ((إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّةِ)) (6) .
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّه لا يصِحُّ العمَلُ ولا يَثْبُتُ إلَّا بوقوعِ النيَّةِ، والإحرامُ هو نيَّةُ الدُّخولِ في النُّسُكِ؛ فلا يصِحُّ وقوعُ النُّسُكِ إلَّا بنِيَّةٍ؛ وهي الإحرامُ (7) .
ثانيًا: مِنَ الإجماعِ
نقلَ الإجماعَ على ذلك ابنُ حَزْمٍ (8) .
المبحث الثَّالِثُ: حِكَمُ تَشْريعِ الإحرامِ
مِنْ حِكَمِ مَشْروعيَّةِ الإحرامِ:
1- تحقيقُ العبوديَّةِ لله، وتعظيمُه، والامتثالُ لأمْرِه (9) .
2- إظهارُ المساواةِ بين جميعِ المُسْلمينَ: حاكِمِهم ومَحْكومِهم، غَنِيِّهم وفَقيرِهم.
3- التَّذكيرُ باليومِ الآخِرِ والحَشْرِ (10) .

الوافي 14-07-2021 03:55 AM

المَطْلَب الأوَّل: حُكْمُ الاغْتِسالِ للمُحْرِمِ
يُسنُّ الاغْتِسالُ للإحرامِ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهِيَّةِ الأربَعَةِ: الحَنَفيَّة (1) ، والمالِكِيَّة (2) ، والشَّافِعِيَّة (3) ، والحَنابِلَة (4) . وحُكِيَ فيه الإجماعُ (5) .
الأدلَّة مِنَ السُّنَّةِ:
1- عنْ جابِرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((أتينا ذا الحُلَيفةِ، فولَدَت أسماءُ بِنْتُ عُمَيسٍ محمَّدَ بنَ أبي بكرٍ، فأرسَلَتْ إلى رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم: كيف أصنَعُ؟ قال: اغتَسِلي، واستَثْفِري بثوبٍ، وأَحْرِمي)) (6) .
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّه إذا كانت الحائِضُ أو النُّفَساءُ لا تنتَفِعُ مِن غُسْلِها في استباحَةِ العِبادَةِ كالصَّلاةِ، ومع ذلك أَمَرَها النبيُّ صلَّى الله عليه وسَلَّم بالاغتسالِ؛ فاغْتِسالُ المُحْرِم الطَّاهِرِ مِن بابِ أَوْلَى، وكان للسُّنِّيَّةِ وليس للوجوبِ؛ لأنَّ الأصْلَ هو براءَةُ الذِّمَّةِ، حتى يَثْبُتَ الوُجوبُ بأمرٍ لا مَدْفَع فيه (7) .
2- عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((من السُّنَّةِ أن يغتسِلَ عند إحرامِه وعند مَدخَلِ مَكَّةَ)) (8) .
المَطْلَب الثَّاني: حُكْمُ اغْتِسالِ الحائِضِ والنُّفَساءِ
يُسنُّ للحائِضِ والنُّفَساءِ الغُسْلُ للإحرامِ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهِيَّةِ الأربَعَة (9) : الحَنَفيَّة (10) ، والمالِكِيَّة (11) ، والشَّافِعِيَّة (12) ، والحَنابِلَة (13) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((... فخَرَجْنا معه، حتى أتَيْنا ذا الحُلَيفةِ، فولَدَت أسماءُ بِنْتُ عُمَيسٍ مُحمَّدَ بنَ أبي بكرٍ، فأرسَلَتْ إلى رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم: كيف أصنَعُ؟ قال: اغتَسِلي، واستَثْفِري بثوبٍ، وأَحْرِمي)) (14) .
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ قَوْلَه: ((اغتسلي)) أمرٌ لها بأن تغتَسِلَ مع أنَّها نُفَساءُ لا تَسْتَبيحُ باغتِسالِها هذا الصَّلاةَ، ولا غَيْرَها مِمَّا تُشتَرَطُ له الطَّهارةُ (15) .
ثانيًا: أنَّه غُسلٌ يُراد به النُّسُكُ؛ فاستوى فيه الحائِضُ والطَّاهِرَة (16) .
ثالثًا: لأنَّ المقصودَ مِن غُسْلِ الإحرامِ: التنظيفُ، وهما أجدَرُ بذلك (17) .
المَطْلَب الثَّالِث: استحبابُ تَلبيدِ الرَّأْسِ
يُستحَبُّ للمُحْرِمِ بعد غُسْلِ الإحرامِ أن يُلَبِّدَ (18) رأسَه (19) ، وهذا مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّة (20) ، وقولٌ للحَنَفيَّة (21) ، وقولٌ للمالِكِيَّة (22) ، وحُكِيَ فيه الإجماعُ (23) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((سمِعْتُ رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم يُهِلُّ مُلَبِّدًا (24) )) (25) .
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ إهلالَ رَسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم مُلَبِّدًا؛ دَلَّ على استحبابِ تَلبيدِ الرَّأْسِ قبل الإحرامِ (26) .
2- وعن حَفْصَةَ رَضِيَ اللهُ عنها: ((أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم أمَرَ أزواجَه أن يَحْلِلْنَ عامَ حَجَّةِ الوداعِ، قالت حفصة: فقُلْتُ: ما يمنَعُك أن تُحِلَّ؟ فقال: إنِّي لبَّدْتُ رأسي، وقَلَّدْتُ هَدْيِي، فلا أُحِلُّ حتى أنحَرَ هَدْيِي)) (27) .
فيه دليلٌ على استحبابِ تلبيدِ شَعْرِ الرأسِ عند الإِحرامِ (28) .
3- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم قال في المُحْرِمِ الذي خَرَّ مِن بَعيرِه مَيِّتًا: ((اغْسِلوه بماءِ سِدْرٍ، وكفِّنُوه في ثَوْبَيْه، ولا تُمِسُّوه بطِيبٍ، ولا تُخَمِّرُوا رأْسَه؛ فإنَّه يُبْعَثُ يومَ القيامَةِ مُلَبِّدًا)) (29) .
ثانيًا: أنَّ ذلك أرفَقُ به؛ لِكَوْنه يُسَكِّنُ شَعْرَه، ويَجْمَعُه، فلا يتولَّدُ فيه القَمْلُ، ولا يتخَلَّلُه الغُبارُ، ولا يتشَعَّثُ، ولا ينتَفِشُ في مدَّةِ الإحرامِ (30) .

الوافي 14-07-2021 03:56 AM

يُستحَبُّ للرجُلِ أن يُحْرِمَ في إزارٍ ورداءٍ (1) .
الدليلُ مِنَ الإجماعِ:
نقلَ الإجماعَ على ذلك النَّوَوِيُّ (2) ، وابنُ تيميَّة (3) .
مَسْألةٌ: إذا لم يجِدِ المُحْرِمُ إزارًا أو لم يَجِدْ نَعْلًا
إنْ لم يَجِدِ الْمُحْرِمُ إزارًا، لَبِسَ السَّراويلَ، وإن لم يجِدْ نَعْلينِ، لَبِسَ الخُفَّينِ.
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((سمعْتُ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم يخطُبُ بعرفاتٍ: من لم يَجِدْ النَعْلَينِ فلْيَلْبَسِ الخفَّينِ، ومن لم يَجِدْ إزارًا فلْيَلْبَسْ سراويلَ)) (4) .
2- عَنْ عبدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((سأل رجل رسولَ الله صلَّى الله عليه وسَلَّم، فقال: ما يَلبَسُ الْمُحْرِمُ؟ فقال: لا يَلْبَسِ القميصَ، ولا السَّراويلَ، ولا البُرْنُسَ، ولا ثوبًا مَسَّه الزَّعفرانُ، ولا وَرْسٌ، فمَن لم يجِدِ النَّعْلينِ فلْيَلْبَسِ الخُفَّينِ)) (5) .
3- عن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((مَن لم يجِدْ نَعْلينِ فلْيَلْبَس خُفَّينِ، ومَن لم يجِدْ إزارًا فلْيَلْبَسْ سَراويلَ)) (6) .
ثانيًا: مِنَ الإجماعِ

نقلَ الإجماعَ على ذلك ابنُ المُنْذِر (7) ، وابنُ قُدامة (8) .


المَطْلَب الأوَّل: حُكْمُ الطِّيبِ قَبْلَ الإحرامِ
يُسَنُّ التطَيُّبُ في البَدَنِ- لا في الثِّيابِ- قبل الدُّخولِ في الإحرامِ؛ استعدادًا له، ولو بَقِيَ أَثَرُه بعدَ الإحرامِ، وهو مَذْهَبُ الجُمْهورِ: الحَنَفيَّةِ (1) ، والشَّافِعِيَّة (2) ، والحَنابِلَة (3) ، وبه قالَتْ طائِفةٌ مِنَ السَّلَفِ (4) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((كنتُ أطَيِّبُ رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم لإحرامِه قبل أن يُحْرِمَ، ولِحِلِّه قبل أن يَطوفَ بالبَيْتِ)) (5) .
2- عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((كأنِّي أنظُرُ إلى وَبيصِ الطِّيبِ (6) في مفارِقِ رَسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم وهو مُحْرِمٌ)) (7) .
3- عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((كنا نخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة فنضمد جباهنا بالسك المطيب عند الإحرام، فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها فيراه النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينهاها)) (8) .
ثانيًا: أنَّ الطِّيبَ معنًى يرادُ للاستدامَةِ؛ فلم يمنَعِ الإحرامُ مِنِ استدامَتِه؛ كالنِّكاحِ (9) .
ثالثًا: أنَّ المقصودَ مِنِ اسْتِنانِه حصولُ الارتفاقِ به حالةَ المنْعِ منه كالسَّحورِ للصَّوْمِ (10) .
المَطْلَب الثَّاني: التطيُّبُ في ثَوْبِ الإحرامِ
يُمنَعُ الْمُحْرِمُ مِن تطييبِ ثيابِ إحرامِه قبل الإحرامِ وبَعدَه، وهو مَذْهَبُ الحَنَفيَّةِ (11) ، والمالِكِيَّة (12) ، وقولٌ للشافِعِيَّة (13) ، وقولٌ للحَنابِلَةِ، اختاره الآجريُّ (14) ، واختارَه ابنُ باز (15) ، وابنُ عُثيمين (16) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، عَنِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم أنَّه قال في المُحْرِم: ((لا يَلْبَسْ ثوبًا مَسَّه وَرْسٌ ولا زَعْفران)) (17) .
ثانيًا:أنَّ الطِّيبَ يبقى في الثَّوبِ ولا يُستَهْلَك بخلافِ البَدَنِ، فلا يُقاسُ عليه (18) .


محتويات الصفحة:

- المَطْلَب الأوَّل: الإحرامُ عَقِبَ صلاةٍ.- المَطْلَب الثَّاني: هل للإحرامِ صَلاةٌ تخصُّه.- المَطْلَب الثَّالِث: متى يكونُ الإحرامُ؟.- المَطْلَب الرَّابِع: التلفُّظُ بالنُّسُكِ عَقِبَ الإحرامِ.

المَطْلَب الأوَّل: الإحرامُ عَقِبَ صلاةٍ
يُستَحَبُّ الإحرامُ بعد صلاةٍ (1) ، وذلك باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهِيَّةِ الأربَعَة، الحَنَفيَّة (2) ، والمالِكِيَّة (3) ، والشَّافِعِيَّة (4) ، والحَنابِلَة (5) .
الأدلَّة مِنَ السُّنَّةِ:
1- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((صلى رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم الظُّهْرَ بذي الحُلَيفَةِ، ثم دعا بناقَتِه فأشْعَرَها في صَفحةِ سَنامِها الأيمَنِ، وسَلَتَ الدَّمَ، وقَلَّدَها نَعلَينِ، ثم رَكِبَ راحِلَتَه، فلمَّا استوَتْ به على البَيداءِ أَهَلَّ بالحَجِّ)) (6) .
2- عن نافعٍ قال: ((كان ابنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما إذا أراد الخروجَ إلى مَكَّةَ ادَّهَنَ بدُهْنٍ، ليس له رائحةٌ طَيِّبةٌ، ثم يأتي مسجِدَ الحُلَيفَة، فيصلِّي ثم يركَبُ، وإذا استوَتْ به راحِلَتُه قائمةً أحرَمَ، ثم قال: هكذا رأيتُ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم يفعَلُ)) (7) .
3- عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، كان يقول: كان رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم يركَعُ بذي الحُلَيفة ركعتينِ، ثم إذا استوَتْ به النَّاقَةُ قائمةً عند مسجِدِ ذي الحُلَيفَة، أهَلَّ بهؤلاءِ الكلماتِ (8) .
المَطْلَب الثَّاني: هل للإحرامِ صَلاةٌ تخصُّه
ليس للإحرامِ صلاةٌ تَخُصُّه، وهو قولُ بعضِ الشَّافِعِيَّة (9) وروايةٌ عن أحمَدَ (10) ، واختارَه ابنُ تيميَّة (11) ، وابنُ القَيِّم (12) والألبانيُّ (13) وابنُ عُثيمين (14) ؛ وذلك لأنَّه لم يَرِدْ عَنِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم صلاةٌ خاصَّةٌ بالإحرامِ، وأنَّه صلَّى الله عليه وسَلَّم إنَّما أحرَمَ عَقِبَ الفريضةِ (15) .
المَطْلَب الثَّالِث: متى يكونُ الإحرامُ؟
يُستحَبُّ أن يُحْرِمَ إذا استَوَتْ به راحِلَتُه (16) ، وهذا مَذْهَبُ المالِكِيَّة (17) ، والأصَحُّ عند الشَّافِعِيَّة (18) ، وهو اختيارُ ابنِ تيميَّة (19) ، والشِّنْقيطيِّ (20) ، وابنِ باز (21) ، وابنِ عُثيمين (22) .
الأدلَّة مِنَ السُّنَّةِ:
1- عن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((صلَّى النبيُّ صلَّى الله عليه وسَلَّم بالمدينةِ أربعًا، وبذي الحُلَيفة ركعتينِ، ثم بات حتى أصبَحَ بذي الحُلَيفة، فلمَّا رَكِبَ راحِلَتَه واستَوَتْ به أهَلَّ)) (23) .
2- عَنْ عبدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: كان رسولُ الله صلَّى الله عليه وسَلَّم يركَعُ بذي الحُلَيفة ركعتينِ، ثم إذا استَوَت به النَّاقةُ قائمةً عند مسجِدِ ذي الحُلَيفةِ، أهَلَّ بهؤلاءِ الكَلِماتِ (24) .
3- عَنْ عبدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((رأيتُ رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم ركِبَ راحِلَتَه بذي الحُلَيفة، ثم يُهِلُّ حين تستوي به قائمةً)) (25) .
4- عن سالِمِ بنِ عبدِ اللهِ أنَّه سَمِعَ أباه، يقول: ((ما أهلَّ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم إلَّا مِن عِنْدِ الشَّجرةِ حين قامَ به بعيرُه)) (26) .
5- عن نافعٍ قال: ((كان ابنُ عمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما إذا أراد الخروجَ إلى مَكَّةَ ادَّهَنَ بدُهْنٍ، ليس له رائحةٌ طَيِّبةٌ، ثم يأتي مسجِدَ الحُلَيفةِ، فيُصَلِّي ثم يركَبُ، وإذا استوت به راحِلَتُه قائمةً أحرَمَ، ثم قال: هكذا رأيتُ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم يفعَلُ)) (27) .
6- عَنْ عبدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((وأمَّا الإهلالُ فإنِّي لم أرَ رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم يُهِلُّ حتى تنبعِثَ به راحِلَتُه)) (28) .
المَطْلَب الرَّابِع: التلفُّظُ بالنُّسُكِ عَقِبَ الإحرامِ
يُسْتَحَبُّ أن ينطِقَ بما أحرَمَ به مِن حَجٍّ أو عُمْرَةٍ (29) وهو مَذْهَبُ الحَنَفيَّةِ (30) ، والحَنابِلَة (31) ، واختارَه ابنُ تيميَّة (32) وابنُ رَجَب (33) وابنُ باز (34) وبه أفتَتِ اللَّجْنَةُ الدَّائِمَةُ (35) .
الأدلَّة مِنَ السُّنَّةِ:
1- عن السَّائِبِ بنِ خلَّادٍ رَضِيَ اللهُ عنه، عَنِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم قال ((أتاني جبريلُ فأمرني أن آمُرَ أصحابي أن يرفَعوا أصواتَهم بالإهلالِ وبالتَّلْبِيَة)) (36) .
2- عَنِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم أنَّه قال: ((أتاني الليلة آتٍ مِن رَبِّي، فقال: صَلِّ في هذا الوادي المُبارَك، وقُلْ: عُمْرَةً في حَجَّةٍ)) (37) .
3- عن أنسٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: سمعْتُ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسَلَّم يقول: ((لبَّيْكَ عُمْرَة وحجًّا)) (38) .

الوافي 14-07-2021 03:57 AM

محتويات الصفحة:

- المَطْلَب الأوَّلُ: تعريفُ التَّلْبِيَة.- المَطْلَبُ الثَّاني: حُكْمُ التَّلْبِيَة.- المَطْلَب الثَّالِثُ: رَفْعُ الصَّوْتِ بالتَّلبِيةِ.- المَطْلَب الرَّابِع: كيفيَّةُ تَلْبِيَةِ المرأةِ.- المَطْلَب الخامس: وقتُ التَّلْبِيَة.- الفرع الأوَّل: ابتداءُ وقتِ التَّلْبِيَة.- الفرع الثَّاني: انتهاءُ وَقْتِ التَّلْبِيَةِ في الحَجِّ.- الفرع الثَّالِث: انتهاءُ وَقْتِ التَّلْبِيَة في العُمْرَةِ.

المَطْلَب الأوَّلُ: تعريفُ التَّلْبِيَة
التَّلْبِيَة لغةً: إجابةُ المنادي، وتُطْلَقُ على الإقامَةِ على الطَّاعَةِ (1) .
التَّلْبِيَة اصطلاحًا: هي قولُ الْمُحْرِم: لبَّيْكَ اللهُمَّ لبَّيكَ، لبَّيك لا شريكَ لك لبَّيك؛ إنَّ الحمْدَ والنِّعمةَ لك والمُلْك، لا شريكَ لك.
فعَنْ عبدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، ((أنَّ تلبيةَ رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: لبَّيكَ اللهمَّ لبَّيكَ، لبَّيكَ لا شريكَ لك لبَّيكَ؛ إنَّ الحمدَ والنِّعمةَ لك والمُلْك، لا شريكَ لك)) (2) .
المَطْلَبُ الثَّاني: حُكْمُ التَّلْبِيَة
التَّلْبِيَةُ سُنَّةٌ في الإحرامِ، وهذا مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّة (3) ، والحَنابِلَة (4) ، واختارَه ابنُ باز (5) ، وابنُ عُثيمين (6) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عن سالمِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ عن أبيه رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهِ عليه وسَلَّم يُهِلُّ مُلَبِّدًا، يقول: لبَّيك اللَّهُمَّ لبَّيْك، لبَّيْك لا شريكَ لك لبَّيْك، إنَّ الحمْدَ والنِّعمَةَ لك والمُلْك، لا شريكَ لك. لا يزيدُ على هؤلاءِ الكَلِماتِ. وإنَّ عبدَ اللهِ بنَ عُمَرَ رَضِي الله عنهما كان يقول: كان رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم يركَعُ بذي الحُلَيفة ركعتينِ، ثم إذا استوت به النَّاقَةُ قائمةً عند مسجِدِ ذي الحُلَيفة، أهلَّ بهؤلاءِ الكَلِماتِ)) (7) .
2- عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه قال بجَمْعٍ: ((سمِعْتُ الذي أُنْزِلَتْ عليه سورةُ البَقَرة، ههنا يقول: لبَّيْك اللهُمَّ لبَّيْك...)) (8) .
وَجْهُ الدَّلالَة مِنَ الحديثينِ:
أنَّ هذا فِعْلُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم، وهو يفيدُ الاستحبابَ (9) .
ثانيًا: لأنَّ التَّلبِيَةَ ذِكْرٌ، فلم تَجِبْ في الحَجِّ والعُمْرَةِ كسائِرِ الأذكارِ فيهما (10) .
ثالثًا: لأنَّها عبادةٌ لا يجِبُ النُّطْقُ في آخِرِها؛ فلم يجِبِ النُّطْقُ في أوَّلِها كالصَّوم (11) .
المَطْلَب الثَّالِثُ: رَفْعُ الصَّوْتِ بالتَّلبِيةِ
يُسنُّ للرجُلِ أن يرفَعَ صَوْتَه بالتَّلْبِيَة (12) . وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهِيَّةِ الأربَعَةِ (13) مِنَ الحَنَفيَّة (14) ، والمالِكِيَّة (15) ، والشَّافِعِيَّة (16) ، والحَنابِلَة (17) ، وحُكِيَ الإجماعُ على ذلك (18) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عن السَّائِبِ بن خلَّادٍ الأنصاريِّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسَلَّم قال: ((أتاني جبريلُ صلى الله عليه وسلم فأَمَرَني أنْ آمُرَ أصحابي ومَن مَعي أن يرفَعُوا أصواتَهم بالإهلالِ، أو قال: بالتَّلْبِيَةِ؛ يريد أحدَهما)) (19) .
2- عن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم قال: ((خَرَجْنا مع رسولِ الله صلَّى الله عليه وسَلَّم، نَصْرُخ بالحَجِّ صُراخًا)) (20) .
المَطْلَب الرَّابِع: كيفيَّةُ تَلْبِيَةِ المرأةِ
المرأةُ لا ترفَعُ صوتَها بالتَّلْبِيَة، وإنَّما تُلَبِّي سرًّا بالقَدْرِ الذي تُسمِعُ به نَفْسَها، وذلك باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهِيَّةِ الأربَعَةِ: الحَنَفيَّة (21) ، والمالِكِيَّة (22) ، والشَّافِعِيَّة (23) ، والحَنابِلَة (24) ، وقالت به طائفةٌ مِنَ السَّلَف (25) ، وحُكِيَ الإجماعُ على ذلك (26) ؛ وذلك لما يُخْشَى من رَفْعِ صَوْتِها مِنَ الفِتنةِ (27) .
المَطْلَب الخامس: وقتُ التَّلْبِيَة
الفرع الأوَّل: ابتداءُ وقتِ التَّلْبِيَة
يُسْتَحَبُّ ابتداء التَّلْبِيَة مِن حينِ الإحرامِ (28) ، وذلك باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهِيَّةِ الأربَعَةِ: الحَنَفيَّة (29) ، والمالِكِيَّة (30) ، والشَّافِعِيَّة (31) ، والحَنابِلَة (32) .
الأدلَّة مِنَ السُّنَّةِ:
1- عن سالمٍ عن أبيه عَبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال: سمِعْتُ رَسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم يُهِلُّ مُلَبِّدًا، يقول: لبَّيْك اللهُمَّ، لبَّيكَ، لبَّيْك لا شريكَ لك لبَّيْك؛ إنَّ الحَمْدَ والنِّعمةَ لك والمُلْك، لا شريك لك؛ لا يزيد على هؤلاءِ الكَلِماتِ، وإنَّ عبدَ اللهِ بنَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما كان يقول: كان رسولُ الله صلَّى الله عليه وسَلَّم يركَعُ بذي الحُلَيفةِ ركعتينِ، ثم إذا استوَتْ به النَّاقَةُ قائمةً عند مسجِدِ ذي الحُلَيفَةِ، أهَلَّ بهؤلاءِ الكلماتِ (33) .
2- عن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((صلَّى النبيُّ صلَّى الله عليه وسَلَّم بالمدينةِ أربعًا، وبذي الحُلَيفةِ رَكعتينِ، ثمَّ بات حتى أصبَحَ بذي الحُلَيفة، فلمَّا رَكِبَ راحِلَتَه واستَوَتْ به، أهلَّ)) (34) .
3- عَنْ عبدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((رأيتُ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسَلَّم ركِبَ راحِلَتَه بذي الحُلَيفة، ثم يُهِلُّ حين تستوي به قائمةً)) (35) .
الفرع الثَّاني: انتهاءُ وَقْتِ التَّلْبِيَةِ في الحَجِّ
تنتهي التَّلْبِيَةُ في الحَجِّ عند ابتداءِ رَمْيِ جمرَةِ العَقَبةِ يَوْمَ النَّحْرِ، ولا فَرْقَ في ذلك بين المُفْرِد، والقارِن، والمتمَتِّع (36) ، وهذا مذهَبُ جُمْهورِ الفُقَهاءِ: الحَنَفيَّة (37) ، والشَّافِعِيَّة (38) ، والحَنابِلَة (39) ، وبه قالَتْ طائِفةٌ مِنَ السَّلَفِ (40) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم أردَفَ الفَضْلَ، فأخبَرَ الفَضْلَ: أنَّه لم يَزَلْ يُلَبِّي حتَّى رمى الجَمْرَةَ)) (41) .
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ الحديثَ نَصَّ في انتهاءِ التَّلْبِيَةِ عند رَمْيِ جَمْرَةِ العَقبَةِ، وقد جاء من روايةِ الفَضْلِ بنِ العَبَّاس رَضِيَ اللهُ عنهما، وقد كان رديفَه يومَئذٍ، وهو أعلَمُ بحالِه مِن غَيْرِه (42) .
2- عن عبدِ اللهِ بنِ سَخْبَرَة، قال: ((غدوتُ مع عبداللهِ بنِ مَسعودٍ مِن مِنًى إلى عرفاتٍ، فكان يلبِّي، قال: وكان عبداللهِ رجلًا آدَمَ له ضَفرانِ، عليه مِسحةُ أهلِ الباديةِ، فاجتمع عليه غوغاءُ مِن غَوغاءِ النَّاسِ، قالوا: يا أعرابيُّ إنَّ هذا ليس يومَ تلبيةٍ، إنَّما هو يومُ تَكبيرٍ، قال: فعند ذلك التفَتَ إليَّ، فقال: أجهِلَ النَّاسُ أم نَسُوا؟! والذي بعث محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم بالحقِّ، لقد خرجتُ مع رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، فما ترَكَ التَّلبيةَ حتى رمى جَمرةَ العقبةِ، إلَّا أن يخلِطَها بتكبيرٍ أو تهليلٍ)) (43) .
ثانيًا:أنَّ التَّلْبِيَةَ للإحرامِ، فإذا رمى فقد شرَعَ في التحلُّلِ، فلا معنى للتَّلبِيَةِ (44) .
الفرع الثَّالِث: انتهاءُ وَقْتِ التَّلْبِيَة في العُمْرَةِ
تنتهي التَّلْبِيَة في العُمْرَةِ بالشُّروعِ في الطَّوافِ، وهذا مَذْهَبُ الجُمْهورِ: الحَنَفيَّة (45) ، والشَّافِعِيَّة (46) ، والحَنابِلَة (47) وهو قولُ طائفةٍ مِنَ السَّلَفِ (48) وذهب إليه أكثَرُ أَهْلِ العِلْمِ (49) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الآثارِ
عنِ ابنِ عباسٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: (يلبِّي المعتَمِرُ حتى يفتتحَ الطَّوافَ) (50) .
ثانيًا: لأنَّه شَرَع في الرُّكْنِ المقصودِ، والتَّلْبِيَةُ إنَّما تكون قبل الوصولِ إلى المقصودِ، فإذا وصل إلى المقصودِ فلا حاجةَ إلى التَّلْبِيَة، فإذا شَرَعَ في الطوافِ فإنَّه يقطَعُ التَّلْبِيَةَ ويشتَغِلُ بذِكْرِ الطَّوافِ (51) .

الوافي 14-07-2021 03:58 AM

تمهيد: أنواعُ الأَنساكِ الثَّلاثةِ

النوع الأوَّل: الإفرادُ: وهو أن يُحْرِمَ بالحَجِّ وَحْدَه (1) .

النوع الثَّاني:القِرانُ: وهو أن يُحْرِمَ بالعُمْرَةِ والحَجِّ معًا في نُسُكٍ واحدٍ، أو يُحْرِمَ بالعُمْرَة وَحْدَها ثم يُدخِلَ الحَجَّ عليها قبل الشُّروعِ في طَوافِها (2) .

النوع الثَّالِث:التَّمَتُّع: وهو أن يُحْرِمَ بالعُمْرَةِ في أشهُرِ الحَجِّ، ثم يُحِلَّ منها، ثم يُحْرِمَ بالحَجِّ مِن عامِه (3) .



<li style="text-align:right"> المبحث الأوَّل: أحكامُ الأَنساكِ الثَّلاثة. <li style="text-align:right"> المبحث الثَّاني: الإفرادُ في الحَجِّ. <li style="text-align:right"> المبحث الثَّالِث: القِرانُ في الحَجِّ. <li style="text-align:right"> المبحث الرَّابِع: التمتُّعُ في الحَجِّ. <li style="text-align:right"> المبحث الخامس: الاشتراطُ في الحَجِّ والعُمْرَةِ.
المَطْلَب الأوَّلُ: جوازُ الأَنساكِ الثَّلاثَةِ

يجوزُ الإحرامُ بأيِّ الأنساكِ الثَّلاثةِ شاء: الإفرادِ، أو القِرانِ، أو التمَتُّعِ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهِيَّةِ الأربَعَة: الحَنَفيَّة (1) ، والمالِكِيَّة (2) ، والشَّافِعِيَّة (3) ، والحَنابِلَة (4) ، وحُكِيَ الإجماعُ على ذلك (5) .

الدليل مِنَ السُّنَّةِ:

عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: خرَجْنا مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم، فقال: ((مَن أرادَ منكم أن يُهِلَّ بحَجٍّ وعُمْرَةٍ، فلْيَفْعَلْ، ومن أراد أن يُهِلَّ بحَجٍّ فلْيُهِلَّ، ومن أراد أن يُهِلَّ بعُمْرَةٍ فلْيُهِلَّ)) (6) قالت عائشةُ رَضِيَ اللهُ عنها: ((فأهَلَّ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم بحجٍّ، وأهلَّ به ناسٌ معه، وأهلَّ ناسٌ بالعُمْرَةِ والحَجِّ، وأهلَّ ناسٌ بعُمْرَةٍ، وكنتُ فيمَنْ أهَلَّ بالعُمْرَةِ)) (7) ، وفي روايةٍ: ((مِنَّا مَن أهَلَّ بالحَجِّ مُفْرِدًا، ومِنَّا مَن قَرَنَ، ومِنَّا مَن تمتَّعَ)) (8) .

وَجْهُ الدَّلالَةِ:

أنَّها ذكرَتْ إحرامَ الصَّحابَة رَضِيَ اللهُ عنهم مع النبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم على أحدِ هذه الأنساكِ الثلاثَةِ: التَّمتُّعِ، والقِرانِ، والإفْرادِ (9) .

المَطْلَب الثَّاني: نُسُكُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم:

النُّسُكُ الذي أحرَمَ به النبيُّ صلَّى الله عليه وسَلَّم هو القِرانُ، وهذا مَذْهَبُ أبي حنيفةَ (10) ، وأحمدَ في المنصوصِ عنه (11) ، وهو قوْلُ أئمَّةِ الحديثِ؛ كإسحاقَ بنِ راهَوَيهِ، وابنِ المُنْذِرِ (12) ، واختارَه ابنُ حزمٍ (13) ، والنَّوَوِيُّ (14) ، وابنُ تيميَّة (15) ، وابنُ القَيِّمِ (16) ، وابنُ حَجَرٍ (17) ، والكمالُ ابنُ الهُمامِ (18) ، والشَّوْكانيُّ (19) ، والشِّنْقيطيُّ (20) وابنُ باز (21) وابنُ عُثيمين (22) .

الأدلَّة: مِنَ السُّنَّة

1- عَن عُمَرَ بْنِ الخَطَّاب رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سمعْتُ رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم يقول: ((أتاني الليلةَ آتٍ مِن ربِّي عزَّ وجَلَّ، فقال: صَلِّ في هذا الوادي المُبارَكِ، وقُلْ: عُمْرَةً في حَجَّةٍ)) (23)

وَجْهُ الدَّلالَةِ:

أنَّه أُمِرَ أن يُهِلَّ بعُمْرَةٍ في حَجٍّ، وهذا إهلالُ القِرانِ، فدلَّ على أنَّه صلَّى الله عليه وسَلَّم كان قارِنًا (24) .

2- عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((تمتَّعَ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم في حَجَّة الوداع بالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ، وأهدى فساقَ معه الهَدْيَ من ذي الحُلَيفةِ، وبدأ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم فأهَلَّ بالعُمْرَةِ ثُمَّ أهَلَّ بالحَجِّ)) (25)

وَجْهُ الدَّلالَةِ:

أنَّ التمتُّعَ عند الصَّحابَة يتناوَلُ القِرانَ، ويُحْمَل عليه قولُ ابنِ عُمَرَ أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم حجَّ مُتَمَتِّعًا (26) .

3- فِعْلُ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما وأنَّه قَرَن الحَجَّ إلى العُمْرَة، وطاف لهما طوافًا واحدًا، ثمَّ قال: ((كذلك فَعَلَ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم)) (27) .

4- عن حفصَةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: قلتُ للنبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم: ((ما شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا ولم تَحِلَّ مِن عُمْرَتِك؟ قال: إنِّي قَلَّدْتُ هَدْيي ولَبَّدْتُ رَأْسي، فلا أَحِلُّ حتَّى أَحِلَّ من الحَجِّ)) (28) .

وَجْهُ الدَّلالَةِ:

أنَّ الحديثَ فيه دَلالةٌ على أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم كان في عُمْرَةٍ معها حجٌّ، فإنَّه لا يحِلُّ من العُمْرَةِ حتَّى يَحِلَّ مِنَ الحَجِّ (29) .

5- عن أنسٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((سَمِعْتُ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم يُلَبِّي بالحَجِّ والعُمْرَةِ جميعًا)) قال بكرٌ: فحَدَّثْتُ بذلك ابنَ عُمَرَ، فقال: ((لبَّى بالحَجِّ وَحْدَه))، فلَقِيتَ أَنَسًا فحَدَّثْتُه بقَوْلِ ابنِ عُمَرَ، فقال أنَسٌ: ما تَعُدُّونَنا إلَّا صِبْيانًا، سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم يقولُ: ((لَبَّيكَ عُمْرَةً وحَجًّا)) (30) .

المَطْلَب الثَّالِثُ: أفضَلُ الأَنْساكِ

التمتُّعُ أفضَلُ الأنساكِ الثلاثَةِ لِمَن لم يَسُقِ الهَدْيَ، وهو مَذْهَبُ الحَنابِلَة (31) ، وأحَدُ قَوْلَيِ الشَّافعي (32) ، وبه قالَتْ طائِفةٌ مِنَ السَّلَفِ (33) ، واختارَه ابنُ حزمٍ (34) ، والشَّوْكانيُّ (35) ، وابنُ باز (36) ، وابن عُثيمين (37) .

الأدلَّة:

أوَّلًا: مِنَ الكِتاب

قال اللهُ تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة: 196].

وَجْهُ الدَّلالَةِ:

أنَّ التمتُّعَ منصوصٌ عليه في كتابِ اللهِ تعالى دون سائِرِ الأَنساكِ (38) .

ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ

1- عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ الأنصاريِّ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّه حَجَّ مع رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم عامَ ساق الهَدْيَ معه، وقد أهَلُّوا بالحَجِّ مُفْرَدًا، فقال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم: أحِلُّوا مِن إحرامِكم، فطُوفوا بالبَيْتِ وبَيْنَ الصَّفا والمَرْوَة، وقَصِّروا، وأقيموا حَلالًا حتى إذا كان يومُ التَّرْوِيَة فأهِلُّوا بالحَجِّ، واجعلوا التي قَدَّمْتُم بها مُتعةً، قالوا: كيف نَجْعَلُها متعةً وقد سَمَّيْنا الحَجَّ؟ قال: افْعَلُوا ما آمُرُكم به؛ فإنِّي لولا أنِّي سُقْتُ الهَدْيَ، لفَعَلْتُ مِثْلَ الذي أَمَرْتُكم به، ولكِنْ لا يَحِلُّ مني حرامٌ، حتى يبلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّه. ففعلوا)) (39) .

2- عن عائشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: قال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم: ((لو استقَبَلْتُ مِن أَمْري ما استَدْبَرْتُ ما سُقْتُ الهَدْيَ، ولَحَلَلْتُ مع النَّاسِ حين حَلُّوا)) (40) .

3- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّه سُئِلَ عن متعَةِ الحَجِّ، فقال: أهلَّ المهاجرونَ والأنصارُ وأزواجُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم في حَجَّةِ الوداعِ، وأَهْلَلْنا، فلمَّا قَدِمْنا مَكَّةَ، قال رسولُ اللهِ صلي الله عليه وسلم: اجْعَلوا إهلالَكم بالحَجِّ عُمْرَةً إلَّا مَنْ قَلَّدَ الهَدْيَ)) (41) .

وَجْهُ الدَّلالَةِ مِنْ هذه النُّصُوصِ مِن وَجْهَينِ:

الوجهُ الأوَّلُ: أنَّه قد تواتَرَتِ الأحاديثُ عَنِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم، أنَّه أمَرَ أصحابَه في حَجَّةِ الوَداعِ لَمَّا طافوا بالبيتِ وبين الصَّفا والمروة، أن يَحِلُّوا من إحرامِهم ويَجْعَلوها عُمْرَةً، إلَّا مَن ساق الهَدْيَ، والنبيُّ صلَّى الله عليه وسَلَّم لا يَنْقُلُهم من الفاضِلِ إلى المفضولِ، بل إنَّما يأمُرُهم بما هو أفضَلُ لهم (42) .

الوجه الثَّاني: أنَّه آخِرُ الأَمرينِ مِن رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم، فلولا أنَّ التمتُّعَ هو الأفضَلُ لَمَا تأسَّفَ عليه النبيُّ صلَّى الله عليه وسَلَّم، ولَمَا تَمنَّى أنَّه لم يَسُقِ الهَدْيَ حتى يَحِلَّ مع النَّاسِ مُتَمَتِّعًا (43) .

4- عن عِمرانَ بنِ حُصَينٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((أُنْزِلَتْ آيةُ المتعَةِ في كتابِ اللهِ، ففَعَلْناها مع رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم، ولم يَنْزِلْ قرآنٌ يُحَرِّمُه، ولم يَنْهَ عنها حتى مات، قال رجل برَأْيِه ما شاءَ)) (44) .

5- عن أبي نضرةَ، قال: ((كان ابنُ عبَّاسٍ يأمُرُ بالمتعة، وكان ابنُ الزُّبير ينهى عنها، قال: فذكرْتُ ذلك لجابرِ بنِ عبدِ الله، فقال: على يَدَيَّ دار الحديثُ؛ تَمَتَّعْنا مع رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم، فلمَّا قام عُمَرُ قال: إنَّ الله كان يُحِلُّ لرَسولِه ما شاء بما شاء، وإنَّ القُرآنَ قد نَزَلَ مَنازِلَه، فـ أَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة: 196]، كما أمَرَكم اللهُ)) (45) .

ثالثًا:أنَّ المتَمَتِّعَ يجتَمِعُ له الحَجُّ والعُمْرَةُ في أشهُرِ الحَجِّ، مع كمالِها وكمالِ أفْعَالها على وَجْهِ اليُسْرِ والسُّهولَةِ، مع زيادةٍ لنُسُكٍ هو الدَّمُ، فكان ذلك هو الأَوْلى (46) .

رابعًا:أنَّه أسهَلُ على المكَلَّفِ غالبًا؛ لِمَا فيه من التَّحَلُّلِ بين العُمْرَةِ والحَجِّ (47) .

المَطْلَب الرَّابِع: تَعْيينُ أحَدِ الأنساكِ

يُسْتَحَبُّ أن يُعيِّنَ ما يُحْرِمُ به من الأَنساكِ عند أوَّلِ إهْلالِه؛ نَصَّ على هذا الجُمْهورُ: المالِكِيَّة (48) ، والشَّافِعِيَّة في الأصَحِّ (49) ، والحَنابِلَة (50) .

الأدلَّة:

أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ

1- عَن عُمَرَ بْنِ الخَطَّاب رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم يقول: ((أتاني الليلةَ آتٍ مِن ربِّي عزَّ وجَلَّ، فقال: صَلِّ في هذا الوادي المُبارَكِ، وقل: عُمْرَةً في حَجَّةٍ)) (51) .

وَجْهُ الدَّلالَةِ:

أن قَوْلَه: ((في)) بمعنى (مع) كأنَّه قال: عُمْرَة معها حَجَّةٌ، فيكون دليلًا على أنَّه صلَّى الله عليه وسَلَّم كان قارِنًا (52) .

2- عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: خرَجْنا مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم، فقال: ((مَن أرادَ منكم أن يُهِلَّ بحَجٍّ وعُمْرَةٍ، فلْيَفْعَلْ، ومن أراد أن يُهِلَّ بحَجٍّ فلْيُهِلَّ، ومن أراد أن يُهِلَّ بعُمْرَةٍ فلْيُهِلَّ)) (53)

ثانيًا: أنَّ التعيينَ هو الأصْلُ في العبادات (54) .

ثالثًا: أنَّه بتعيينِ النُّسُك يَعْرِفُ المْحْرِمُ ما يدخُلُ عليه، وهو أقرَبُ إلى الإخلاصِ (55) .

المَطْلَب الخامس: الإحرامُ المُبْهَمُ

إذا أحرَمَ ولم يعيِّنْ نُسُكَه فإنَّه ينعَقِدُ إحرامُه، ويَصْرِفُه إلى ما شاءَ مِن أنواعِ النُّسُكِ قبل شُروعِه في أفعالِ النُّسُكِ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهِيَّةِ الأربَعَةِ: الحَنَفيَّة (56) ، والمالِكِيَّة (57) ، والشَّافِعِيَّة (58) ، والحَنابِلَة (59) .

الأدلَّة:

أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ

1- عن جابرِ بن عبدِ الله رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((قَدِمَ عليُّ بنُ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، بِسعايَتِه، قال له النبيُّ صلَّى الله عليه وسَلَّم: بمَ أهْلَلْتَ يا عليُّ؟ قال: بما أهَلَّ به النبيُّ صلَّى الله عليه وسَلَّم، قال: فأَهْدِ، وامكُثْ حرامًا كما أنت)) (60) .

2- عن أبي موسى رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((قَدِمْتُ على رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم وهو مُنِيخٌ بالبَطْحاءِ، فقال لي: أحَجَجْتَ؟، فقُلْتُ: نعم، فقال: بمَ أهْلَلْتَ؟، قال: قُلْتُ: لبَّيْكَ بإهلالٍ كإهلالِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم، قال: فقد أحسَنْتَ، طُفْ بالبَيْتِ وبالصَّفا والمروة، وأَحِلَّ)) (61) .

ثانيًا: أنَّه صَحَّ الإهلالُ مُبْهَمًا لتأكُّدِ الإحرامِ، وكَوْنِه لا يَخْرُج منه بمحظوراتِه (62) .

ثالثًا: أنَّ هذا مِثْلُ ابتداءِ الإحرامِ بالنِّيَّة مطلقًا، ثم تَعْيِينِه باللَّفْظِ بأيِّ أنواعِ النُّسُكِ شاء (63) .

المَطْلَب السادس: مَن لَبَّى بغيرِ ما نوى

من لبَّى بغيرِ ما نوى، كأنْ يَنْوِيَ القِرانَ، ويجري على لسانِه الإفرادُ، ونحو ذلك؛ فإنَّه يكون مُحْرِمًا بما نوى، لا بما جرى على لِسانِه (64) .

الأدلَّة:

أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ

عَن عُمَرَ بْنِ الخَطَّاب رَضِيَ اللهُ عنه قال: سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم يقولُ: ((إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ، وإنَّما لِكُلِّ امْرِئٍ ما نوى)) (65) .

ثانيًا: مِنَ الإجماعِ

نقلَ الإجماعَ على ذلك ابنُ المُنْذِر (66) .

ثالثًا: أنَّ الواجِبَ النِّيَّةُ، وعليها الاعتمادُ، واللَّفْظُ لا عبرةَ به، فلم يُؤَثِّرْ، كما لا يُؤَثِّرُ اختلافُ النيَّةِ فيما يُعْتَبَرُ له اللَّفْظُ دون النِّيَّةِ (67) .

المَطْلَبُ السابعُ: نسيانُ ما أحرَمَ به

مَنْ أحرَمَ بشيءٍ مُعَيَّنٍ، ثم نَسِيَ ما أحرَمَ به؛ فإنَّه يَلْزَمُه حجٌّ وعُمْرَةٌ، ويَعْمَل عَمَلَ القارِن، وهذا مَذْهَبُ الجُمْهورِ: الحَنَفيَّة (68) ، والمالِكِيَّة (69) ، والشَّافِعِيَّة (70) .

وذلك للآتي:

أوَّلًا: أنَّه تلبَّسَ بالإحرامِ يقينًا فلا يتحَلَّلُ إلا بيقينِ الإتيانِ بالمشروعِ فيه (71) .

ثانيًا: أنَّه أحوَطُ؛ لاشتمالِه على النُّسُكَينِ، فيتحَقَّقُ بالإتيانِ بالنُّسُكينِ الخروجُ عمَّا شَرَعَ فيه، فتَبْرَأُ ذِمَّتُه (72) .

المَطْلَب الثامن: الإحرامُ بما أحرَمَ به فلانٌ:

مَن نوى الإحرامَ بما أحْرَمَ به فلانٌ؛ انعقَدَ إحرامُه بِمِثْلِه، فإن كان لا يَعْلَمُ ما أحرَمَ به؛ فإنَّه يَقَعُ مُطْلَقًا ويَصْرِفُه إلى ما يشاء؛ نصَّ على هذا الجُمْهورُ: المالِكِيَّة (73) ، والشَّافِعِيَّة (74) ، والحَنابِلَة (75) .

الأدلَّة مِنَ السُّنَّةِ:

1- عن جابرِ بن عبدِ الله رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((قَدِمَ عليُّ بنُ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، بِسعايَتِه، قال له النبيُّ صلَّى الله عليه وسَلَّم: بمَ أهْلَلْتَ يا عليُّ؟ قال: بما أهَلَّ به النبيُّ صلَّى الله عليه وسَلَّم، قال: فأَهْدِ، وامكُثْ حرامًا كما أنت)) (76) .

2- عن أبي موسى رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((قَدِمْتُ على رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم وهو مُنِيخٌ بالبَطْحاءِ، فقال لي: أحَجَجْتَ؟، فقُلْتُ: نعم، فقال: بمَ أهْلَلْتَ؟، قال: قُلْتُ: لبَّيْكَ بإهلالٍ كإهلالِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم، قال: فقد أحسَنْتَ، طُفْ بالبَيْتِ وبالصَّفا والمروة، وأَحِلَّ)) (77) .

ثانيًا: وله أن يَصْرِفَه إلى ما شاء؛ لأنَّه إن صَرَفَه إلى عُمْرَةٍ، وكان نُسُكُ فلانٍ عُمْرَةً، فقد أصاب، وإن كان حجًّا مُفْرَدًا أو قِرانًا فله فَسْخُهُما إلى العُمْرَةِ، وإن صَرَفَه إلى القِرانِ، وكان نُسُكُ فلانٍ قرانًا، فقد أصاب، وإن كان عُمْرَةً، فإدخالُ الحَجِّ على العُمْرَةِ جائزٌ قبل الطواف، فيصير قارنًا، وإن كان مُفْرِدًا، لغا إحرامُه بالعُمْرَة، وصَحَّ بالحَجِّ، وسقط فَرْضُه، وإن صَرَفَه إلى الإفرادِ، وكان مُفْرِدًا، فقد أصاب، وإن كان مُتَمَتِّعًا، فقد أدخَلَ الحَجَّ على العُمْرَة، وصار قارنًا في الحُكْم، وفيما بينه وبينَ الله تعالى، وهو يَظُنُّ أنَّه مُفْرِدٌ، وإن كان قارنًا فكذلك (78) .

الوافي 14-07-2021 04:00 AM

الإفرادُ بالحَجِّ: أن يُحْرِمَ بالحَجِّ مُفْرَدًا، فيقول: «لبيَّكَ اللهُمَّ حَجًّا»، ثم يمضي في عَمَلِ حَجِّه حتى يُتِمَّه، فليس عليه إلَّا طوافٌ واحِدٌ، وهو طوافُ الإفاضةِ (1) ، وليس عليه إلَّا سَعْيٌ واحد، وهو سعيُ الحَجِّ، ولا يَحِلُّ إلَّا يوْمَ النَّحْرِ، وليس عليه دَمٌ (2) ، وإن كان يُسْتَحَبُّ له ذلك (3) .

المَطْلَب الأوَّل: تعريفُ القِرانِ
القِرانُ: هو أن يُحْرِمَ بالعُمْرَةِ والحَجِّ معًا في نُسُكٍ واحدٍ، فيقول: لبَّيْكَ اللهم عُمْرَةً في حَجَّةٍ (1) .
المَطْلَب الثَّاني: إطلاقُ التمَتُّعِ على القِرانِ
يُطلَقُ التمتُّعُ على القِرانِ في عُرْفِ السَّلَفِ؛ قرَّرَ ذلك ابنُ عَبْدِ البَرِّ (2) ، والنَّوَوِيُّ (3) ، وابنُ تيميَّة (4) ، وابنُ حَجَرٍ (5) ، والكَمالُ ابنُ الهمامِ (6) ، والشِّنْقيطيُّ (7) ، وغيرُهم (8) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتاب
قال الله عَزَّ وجَلَّ: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ[البقرة: 196].
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ القارِنَ متَمَتِّعٌ بجَمْعِ النُّسُكَينِ في نُسُكٍ واحدٍ، ومتمَتِّعٌ بسُقوطِ أحَدِ السَّفَرينِ عنه، فلم يُحْرِمْ لكلِّ نُسُكٍ مِن ميقاتِه، فيَدْخل بذلك في عمومِ الآيَةِ في مُسَمَّى التمتُّعِ (9) .
ثانيًا: إطلاقُ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللهُ عنهم التمَتُّعَ على نُسُكِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم، وإنَّما كان نُسُكُه القِرانَ (10) :
1- عن عِمْرانَ بنِ حُصَينٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((تمتَّعَ نَبِيُّ الله صلَّى الله عليه وسَلَّم وتمتَّعْنا معه)) (11) .
2- عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((تمتَّعَ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم في حَجَّةِ الوداعِ بالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ)) (12) .
3- عن سعيدِ بنِ المسيِّب قال: ((اختلفَ عليٌّ وعثمانُ رَضِيَ اللهُ عنهما وهما بعُسْفانَ في المُتعَة، فقال عليٌّ: ما تريدُ إلَّا أن تنهى عن أمْرٍ فَعَلَه النبي صلَّى الله عليه وسَلَّم، فلمَّا رأى ذلك عليٌّ أهَلَّ بهما جميعًا)) (13) .
ثالثًا: أنَّ كِلا النُّسُكَينِ فيه تمتُّعٌ لغةً; لأنَّ التمتُّعَ مِن المتاعِ أو المُتْعَة، وهو الانتفاعُ أو النَّفْعُ، وكلٌّ مِنَ القارِنِ والمتمَتِّع، انتفَعَ بإسقاطِ أحَدِ السَّفَرينِ، وانتَفَعَ القارِنُ باندراجِ أعمالِ العُمْرَةِ في الحَجِّ (14) .
المَطْلَب الثَّالِث: صُوَرُ القِرانِ:
للقِرانِ ثَلاثُ صُوَرٍ:
الصورةُ الأولى: صورةُ القِرانِ الأَصْلِيَّةُ:
أن يُحْرِمَ بالعُمْرَةِ والحَجِّ معًا، فيَجْمَع بينهما في إحرامِه، فيقول: لبَّيْكَ عُمْرَةً وحجًّا، أو لبَّيْك حجًّا وعُمْرَةً (15) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم جاءه جبريلُ- عليه السلام- وقال: ((صَلِّ في هذا الوادي المُبارَكِ، وقل: عُمْرَةً في حَجَّةٍ، أو قال: عُمْرَةً وحَجَّةً)) (16) .
2- عن عائشةَ- رَضِيَ اللهُ عنها- قالت: ((فمِنَّا مَن أهَلَّ بعُمْرَةٍ، ومِنَّا مَن أهَلَّ بحَجة، ومِنَّا مَن أهَلَّ بحَجٍّ وعُمْرَةٍ)) (17) .
ثانيًا: مِنَ الإجماعِ
نَقَلَ الإجْماعَ على جوازِ هذه الصُّورَةِ ابنُ عَبْدِ البَرِّ (18) والمُباركفوريُّ (19) .
الصُّورة الثَّانيةُ: إدخالُ الحَجِّ على العُمْرَةِ:
أن يُحْرِمَ بالعُمْرَةِ، ثم يُدخِلَ عليها الحَجَّ.
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((خَرَجْنا مع النبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم لا نذْكُرُ إلَّا الحَجَّ، فلمَّا جِئْنَا سَرِفَ طَمِثْتُ، فدخل عليَّ النبيُّ صلَّى الله عليه وسَلَّم وأنا أبكي، فقال: ما يُبْكِيكِ؟ قُلْتُ: لوَدِدْتُ- واللهِ- أنِّي لم أحُجَّ العامَ. قال: لعَلَّكِ نَفِسْتِ؟ قُلْتُ: نعم. قال: فإنَّ ذلكِ شَيءٌ كَتَبَه اللهُ على بناتِ آدَمَ، فافْعَلِي ما يفْعَلُ الحاجُّ، غيرَ أن لا تَطُوفي بالبَيْتِ حتَّى تَطْهُري)) (20) .
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم جوَّز لعائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها إدخالَ الحَجِّ على العُمْرَةِ (21) .
2- عن نافعٍ: ((أنَّ ابنَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما أراد الحَجَّ عام نزَلَ الحَجَّاجُ بابنِ الزُّبيرِ، فقيل له: إنَّ النَّاسَ كائِنٌ بينهم قتالٌ، وإنَّا نخاف أن يَصُدُّوك، فقال: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: 21] إذًا أصنَعَ كما صَنَعَ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم، إنِّي أُشْهِدُكم أنِّي قد أوجَبْتُ عُمْرَةً. ثم خرج حتى إذا كان بظَاهِرِ البَيداءِ، قال: ما شأنُ الحَجِّ والعُمْرَةِ إلا واحِدٌ، أُشْهِدُكم أنِّي قد أوجَبْتُ حجًّا مع عُمْرَتي. وأَهْدَى هديًا اشتراه بقُدَيْدٍ ولم يَزِدْ على ذلك، فلم يَنْحَرْ، ولم يَحِلَّ من شيءٍ حَرُمَ منه، ولم يَحْلِقْ ولم يُقَصِّرْ حتى كان يومُ النَّحْرِ، فنَحَرَ وحَلَقَ، ورأى أنْ قد قَضى طوافَ الحَجِّ والعُمْرَةِ بطوافِه الأَوَّل. وقال ابنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما: كذلك فَعَلَ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم)) (22) .
ثانيًا: مِنَ الإجماعِ
نَقَلَ الإجْماعَ على جوازِ إدخالِ الحَجِّ على العُمْرَة (23) : ابنُ المُنْذِر (24) ، وابنُ عَبْدِ البَرِّ (25) ، وابنُ قُدامة (26) ، وابنُ أخيه ابنُ أبي عُمَر (27) ، والقُرطبيُّ (28) ، والرَّمليُّ (29) .
مَسْألةٌ:
يُشْتَرَطُ في إدخالِ الحَجِّ على العُمْرَة أن يكون قبل الطَّوافِ، وهو مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّة (30) ، والحَنابِلَة (31) ، وهو قَوْلُ أشهَبَ من المالِكِيَّةِ (32) ، واختارَه ابنُ عبدِ البَرِّ (33) ؛ وذلك لأنَّه إذا طاف فيكون حينئذٍ قد اشتغَلَ بمعظَمِ أعمالِ العُمْرَةِ، وشُرِعَ في سبَبِ التحَلُّلِ، ففات بذلك إدخالُ الحَجِّ على العُمْرَةِ (34) .
الصورة الثَّالِثة:إدخالُ العُمْرَةِ على الحَجِّ
اختلف أَهْلُ العِلْم في حُكْمِ إدخالِ العُمْرَةِ على الحَجِّ، وذلك بأنْ يُحْرِمَ بالحَجِّ مُفْرِدًا، ثمَّ يُدْخِلَ عليها العُمْرَةَ ليكون قارنًا، وذلك على قولينِ:
القول الأوّل: لا يصِحُّ إدخالُ العُمْرَةِ على الحَجِّ، فإن فعل لم يَلْزَمْه، ويتمادى على حَجِّه مفرِدًا، وهذا مَذْهَبُ الجُمْهورِ: المالِكِيَّة (35) ، والشَّافِعِيَّة- في الأصَحِّ (36) - والحَنابِلَة (37) ، وبه قالَتْ طائِفةٌ مِنَ السَّلَف (38) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ الأنصاريِّ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّه حَجَّ مع رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم عام ساقَ الهَدْيَ معه، وقد أهلُّوا بالحَجِّ مُفْرَدًا، فقال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم: أحِلُّوا من إحرامِكم، فطوفوا بالبَيتِ وبَينَ الصَّفا والمروةِ، وقَصِّروا، وأقيموا حَلالًا، حتى إذا كان يومُ التَّرويةِ فأَهِلُّوا بالحَجِّ، واجعلوا التي قَدَّمْتُم بها مُتعةً)) (39) .
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ أَمْرَهم بفَسْخِ الحَجِّ إلى عُمْرَة إنَّما كان بغَرَضِ إعلامِهم بجوازِ العُمْرَةِ في أشهُرِ الحَجِّ؛ لإبطالِ ما كانوا عليه في الجاهليَّة مِن عَدَمِ الجوازِ، فلو كان يجوزُ إدخالُ العُمْرَةِ على الحَجِّ لأَمَرَهم بذلك، ولَمَا احتاجَ أن يأمُرَهم بفَسْخِ الحَجِّ (40) .
ثانيًا: أنَّ أفعالَ العُمْرَةِ من الطَّوافِ والسعيِ والحَلْقِ، استُحِقَّتْ بالإحرامِ بالحَجِّ، فلم يبقَ في إدخالِ الإحرامِ بها فائدة، بخلاف العكس من إدخال الحَجِّ على العُمْرَة، فإنَّه يستفيدُ به الوقوفَ والرَّميَ والمَبِيتَ (41) .
ثالثًا: أنَّ التداخُلَ على خلافِ الأصلِ، ولا يُصارُ إليه إلَّا بدليلٍ، لاسيما أنَّ فيه إدخالَ الأصغرِ على الأكبرِ، وهو لا يصِحُّ (42) .
رابعًا: أنَّ العُمْرَة أضعَفُ من الحَجِّ، فلم يَجُزْ أن تُزاحِمَ ما هو أقوى منها بالدُّخولِ عليها، وجاز للحَجِّ مُزاحَمَتُها؛ لأنَّه أقوى منها (43) .
القول الثاني: يجوزُ إدخالُ العُمْرَةِ على الحَجِّ، ويكون قارنًا، وهذا مَذْهَبُ الحَنَفيَّةِ (44) ، وهو قولُ الشَّافعيِّ في القديمُ (45) ، واللَّخمي من المالِكِيَّة (46) ، وبه قال عطاءٌ، والأوزاعيُّ (47) ، وقوَّاه ابنُ عُثيمين (48) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها: ((أهَلَّ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم بالحَجِّ، ثم جاءه جبريلُ عليه السَّلامُ، وقال: صلِّ في هذا الوادي المُبارَك، وقل: عُمْرَةً في حجَّةٍ، أو عُمْرَةً وحَجَّةً)) (49) .
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم أُمِرَ أن يُدخِلَ العُمْرَةَ على الحَجِّ، وهذا يدلُّ على جوازِ إدخالِ العُمْرَةِ على الحَجِّ (50) .
2- عن جابرٍ رَضِيَ الله عنه قال: ((لو أنِّي استقبلْتُ من أمري ما استدبَرْتُ، لم أسُقِ الهديَ، وجعلتُها عمرةً. فمن كان منكم ليس معه هَدْيٌ فليُحِلَّ. وليَجْعلْها عُمرةً. فقام سراقةُ بنُ مالكِ بنِ جُعشمٍ، فقال : يا رسولَ اللهِ ! ألِعَامِنا هذا أم لأبدٍ؟ فشبَّك رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أصابعَه واحدةً في الأخرى. وقال دخلتِ العمرةُ في الحجِّ مرتَين، لا بل لأبدِ أبدٍ)) (51) .
3- عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلم: ((هذه عمرةٌ استمتَعْنا بها، فمَن لم يكن عنده الهَدْيُ، فليُحِلَّ الحِلَّ كُلَّه؛ فإنَّ العُمرةَ قد دخَلَت في الحَجِّ إلى يومِ القيامةِ)) (52) .
ثالثًا: أنَّه يستفيدُ بذلك أن يأتيَ بنُسُكَينِ بَدَلَ نُسُكٍ واحدٍ (53) .
رابعًا: قياسًا على إدخالِ الحَجِّ على العُمْرَةِ؛ لأنَّه أحَدُ النُّسُكينِ (54) .
المَطْلَب الرَّابِع: أعمالُ القارِن
الفرع الأوَّل: أعمالُ القارِن
عَمَلُ القارِنِ والمُفْرِدِ واحِدٌ؛ فالقارِنُ يكفيه إحرامٌ واحِدٌ، وطوافٌ واحِدٌ، وسعيٌ واحِدٌ، ولا يَحِلُّ إلَّا يومَ النَّحْرِ، ويقتَصِرُ على أفعالِ الحَجِّ، وتندرج أفعالُ العُمْرَةِ كلُّها في أفعالِ الحَجِّ، وهذا مَذْهَبُ الجُمْهورِ من: المالِكِيَّة (55) ، والشَّافِعِيَّة (56) ، والحَنابِلَة (57) ، وبه قال أكثَرُ السَّلَفِ (58) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عن جابرِ بنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((لم يَطُفِ النبيُّ صلَّى الله عليه وسَلَّم ولا أصحابُه بين الصَّفا والمروةِ إلَّا طَوافًا واحِدًا)) (59) .
2- عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((وأمَّا الذين جمَعوا الحَجّ والعُمْرَة فإنَّما طافوا طوافًا واحدًا)) (60) .
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ الحديثَ نَصٌّ صريحٌ على اكتفاءِ القارِنِ بطوافٍ واحدٍ لحَجِّه وعُمْرَتِه (61) .
3- عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها: أنَّها أهَلَّت بعُمْرَةٍ، فقَدِمَتْ ولم تَطُفْ بالبيتِ حتى حاضت، فنَسَكَت المناسِكَ كُلَّها، وقد أهلَّتْ بالحَجِّ، فقال لها النبيُّ صلَّى الله عليه وسَلَّم: ((يَسَعُكِ طوافُكِ لحَجِّكِ وعُمْرَتِكِ)) (62) .
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ هذا الحديثَ الصَّحيحَ صريحٌ في أنَّ القارِنَ يكفيه لحَجِّه وعُمْرَتِه طوافٌ واحِدٌ وسعيٌ واحدٌ (63) .
4- عن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، عَنِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم أنَّه قال: ((دخَلَتِ العُمْرَةُ في الحَجِّ؛ مَرَّتينِ)) (64) .
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ تصريحَه صلَّى الله عليه وسَلَّم بدُخولِها فيه؛ يدلُّ على دخولِ أعمالِها في أعمالِه حالةَ القِرانِ (65) .
5- عن نافعٍ: ((أنَّ عبدَ اللهِ بنَ عبدِ الله، وسالمَ بنَ عبدِ الله، كلَّمَا عبدَ اللهِ حين نزل الحجَّاجُ لقتالِ ابنِ الزُّبيرِ، قالا: لا يضُرُّك ألَّا تحُجَّ العامَ؛ فإنَّا نخشى أن يكونَ بين النَّاسِ قتِالٌ يُحالُ بينك وبين البَيتِ، قال: فإنْ حِيلَ بيني وبينه، فعَلْتُ كما فعل رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم وأنا معه، حين حالت كفَّارُ قُريشٍ بينه وبين البيتِ، أُشهِدُكم أنِّي قد أوجبتُ عُمرةً، فانطلق حتى أتى ذا الحُلَيفةِ فلبَّى بالعمرةِ، ثم قال: إنْ خُلِّيَ سبيلي قضيتُ عُمرَتي، وإن حيلَ بيني وبينه فعَلْتُ كما فعلَ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم وأنا معه، ثم تلا: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ الأحزاب: 21، ثم سار حتى إذا كان بظَهرِ البَيداءِ، قال: ما أمْرُهما إلَّا واحِدٌ، إن حيلَ بيني وبين العُمرةِ حيل بيني وبين الحَجِّ، أُشهِدُكم أنِّي قد أوجَبتُ حَجَّةً مع عمرةٍ، فانطلق حتى ابتاع بقُدَيدٍ هَديًا، ثم طاف لهما طوافًا واحدًا بالبيتِ وبين الصَّفا والمروةِ، ثم لم يحِلَّ منهما حتى حلَّ منهما بحَجَّةٍ يومَ النَّحرِ)) (66) .
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ في هذه الرِّوايةِ التَّصريحَ مِنِ ابنِ عُمَرَ باكتفاءِ القارِنِ بطوافٍ واحدٍ، وهو الذي طافَه يومَ النَّحْرِ للإفاضةِ، وأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم كذلك فَعَلَ (67) .
ثانيًا: مِنَ الآثارِ
عن سَلَمَةَ بنِ كُهَيلٍ قال: (حلَفَ طاوس: ما طاف أحدٌ مِن أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم لحَجِّه وعُمْرَتِه إلَّا طوافًا واحدًا) (68) .
الفرع الثَّاني: وجوبُ الهَدْيِ على القارِنِ
يجِبُ الهَدْيُ على القارِن (69) إذا لم يَكُنْ مِن حاضِرِي المسجِدِ الحرامِ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهِيَّةِ الأربَعَةِ: الحَنَفيَّة (70) ، والمالِكِيَّة (71) ، والشَّافِعِيَّة (72) ، والحَنابِلَة (73) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتاب
قولُه تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ[البقرة: 196].
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أ- أنَّ القارِنَ متَمَتِّعٌ بالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ، فهو داخِلٌ في مسمَّى التمتُّعِ في عُرْفِ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللهُ عنهم؛ يدلُّ على ذلك ما يلي:
1- عن مروان بن الحكم، قال: (شهدت عثمان، وعليا رضي الله عنهما وعثمان «ينهى عن المتعة، وأن يجمع بينهما، فلما رأى علي أهل بهما، لبيك بعمرة وحجة، قال: ما كنت لأدع سنة النبي صلى الله عليه وسلم لقول أحد) (74) .
2- عن سعيدِ بنِ المسَيِّبِ، قال: ((اختلف عليٌّ وعثمانُ رَضِيَ اللهُ عنهما وهما بعُسْفانَ في المُتعَةِ، فقال عليٌّ: ما تريدُ إلَّا أن تنهى عن أمْرٍ فَعَلَه رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم، فلمَّا رأى ذلك عليٌّ، أهلَّ بهما جميعًا)) (75) .
3- عن عِمرانَ بنِ حُصَينٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((تمتَّعَ نبيُّ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم وتَمَتَّعْنا معه)) (76) .
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّه وَصَفَ نُسُكَ النبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم بالتمتُّعِ مع كونِه صلَّى الله عليه وسَلَّم كان قارنًا (77) .
ب- دلَّ ظاهِرُ الآيةِ على أنَّ من تمتَّعَ فعليه الهَدْي إذا لم يكُنْ مِن حاضِري المسجِدِ؛ فإنْ كان فلا دَمَ (78) .
ثانيًا: أنَّ الهَدْيَ إذا كان واجبًا على المتمَتِّعِ بنَصِّ القرآنِ والسنَّةِ والإجماعِ، فإنَّ القارِنَ أَوْلى لأمرينِ:
الأوَّل: أنَّ فِعْلَ المتَمَتِّع أكثَرُ مِن فِعْلِ القارِنِ، فإذا لَزِمَه الدَّمُ فالقارِنُ أَوْلَى (79) .
الثَّاني: أنَّه إذا وجب على المُتَمَتِّع لأنَّه جمَعَ بين النُّسُكينِ في وقتِ أحدِهما؛ فلَأَنْ يَجِبَ على القارِنِ- وقد جمَعَ بينهما في إحرامٍ واحِدٍ- أَوْلَى، وقد اندرجَتْ جميعُ أفعالِ العُمْرَةِ في أفعالِ الحَجِّ (

الوافي 14-07-2021 04:00 AM

المَطْلَب الأوَّل: تعريفُ التمَتُّعِ
التمَتُّعُ هو أن يُحْرِمَ بالعُمْرَةِ في أشهُرِ الحَجِّ، ثم يَحِلَّ منها، ثم يُحْرِمَ بالحَجِّ مِن عامِه (1) .
المَطْلَب الثَّاني: سبَبُ تَسْمِيَةِ النُّسُك بالتمتُّع
ذكَرَ أَهْلُ العِلْم أسبابًا لتسميةِ نُسُك التمتُّع بهذا الاسم؛ أشهَرُهما سببانِ (2) :
السببُ الأوَّل: أنَّ المتمَتِّعَ يتمَتَّعُ بإسقاطِ أحَدَ السَّفَرينِ عنه، فشَأْنُ كلِّ واحدٍ من النُّسُكين أن يُحْرِمَ به من الميقاتِ، وأن يَرْحَل إليه مِن قُطْرِه، فإذا تمتَّعَ بالنُّسُكين في سَفْرَةٍ واحدةٍ، فإنَّه يكون قد سقط أحدُهما، فجعل الشَّرعُ الدمَ جابِرًا لِمَا فاته، ولذلك وجب الدَّمُ أيضًا على القارِنِ، وكلٌّ يُوصَف بالتمتُّع في عُرْفِ الصَّحابَة لهذا المعنى، ولذلك أيضًا لم يَجِبِ الدَّمُ على المكِّيِّ مُتَمتِّعًا كان أو قارنًا؛ لأنَّه ليس مِن شأنِه الميقاتُ ولا السَّفَرُ.
السبب الثَّاني: أنَّ المتمَتِّعَ يتمتَّعُ بين العُمْرَةِ والحَجِّ بالنِّساءِ والطِّيبِ، وبكلِّ ما لا يجوزُ للمُحْرِم فِعْلُه مِن وَقْتِ حِلِّه في العُمْرَةِ إلى وقت الحَجِّ، وهذا يدلُّ عليه الغايةُ في قَوْلِه تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ[البقرة: 196]؛ فإنَّ ذلك يدلُّ على أنَّ ثَمَّةَ تمتُّعًا بين العُمْرَةِ والحَجِّ، ويدلُّ عليه أيضًا لفظُ التمتُّعِ؛ فإنَّه في اللغةِ بمعنى التلذُّذِ والانتفاعِ بالشَّيءِ.
المَطْلَب الثَّالِث: صُوَرُ التمتُّعِ
الفرع الأوَّل: الصُّورةُ الأصليَّةُ للتمتُّعِ
أن يُحْرِمَ بالعُمْرَةِ في أشهُرِ الحَجِّ، ثم يُحْرِمَ بالحَجِّ بعد فراغِه من العُمْرَةِ.
الدَّليلُ مِنَ الإجماعِ:
نقلَ الإجماعَ على ذلك ابنُ المُنْذِر (3) ، وابنُ عَبْدِ البَرِّ (4) ، والقرطبيُّ (5) .
الفرع الثَّاني: الصورةُ الطَّارِئَةُ (فَسْخُ الحَجِّ إلى عُمْرَةٍ)
أن يُحْرِمَ بالحَجِّ، ثم قبل طوافِه، يفسَخُ حَجَّه إلى عُمْرَةٍ، فإذا فرغ من العُمْرَةِ وحَلَّ منها، أحرَمَ بالحَجِّ (6) ، وهذه الصورةُ تَصِحُّ عند الحَنابِلَة (7) ، والظَّاهِريَّةِ (8) ، وبه قالَتْ طائِفةٌ مِنَ السَّلَف (9) ، واختارَه ابنُ تيميَّة (10) ، وابنُ القَيِّمِ (11) ، والشِّنْقيطيُّ (12) ، وابنُ باز (13) ، وابنُ عُثيمين (14) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((كانوا يَرَوْنَ العُمْرَةَ في أشهُرِ الحَجِّ مِن أفجَرِ الفُجورِ في الأرضِ، ويجعلون المُحَرَّم صَفَرًا، ويقولون: إذا بَرَأَ الدَّبَر، وعَفا الأَثَر، وانسلَخَ صَفَر؛ حَلَّتِ العُمْرَةُ لِمَنِ اعتَمَر، فقَدِمَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسَلَّم وأصحابُه صَبيحةَ رابعةٍ مُهِلِّينَ بالحَجِّ، فأمَرَهم أن يجعلوها عُمْرَةً، فتعاظم ذلك عندهم، فقالوا: يا رَسولَ اللهِ، أيُّ الحِلِّ؟ قال: الحِلُّ كُلُّه)) (15) .
2- عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: قال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم لأصحابِه: ((اجعلوها عُمْرَةً، فأحَلَّ النَّاسُ إلَّا مَن كان معه الهَدْيُ)) (16) .
3- عن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، عَنِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم أنَّه قال: ((لو أنِّي استقْبَلْتُ مِن أَمْري ما استَدْبَرْتُ لم أَسُقِ الهَدْيَ، وجَعَلْتُها عُمْرَةً، فمن كان منكم ليس معه هدْيٌ فليُحِلَّ، ولْيَجْعَلْها عُمْرَةً، فقام سُراقَةُ بنُ مالكِ بنِ جَعْشَم، فقال: يا رَسولَ الله، أَلِعامِنا هذا أم لأَبدٍ؟ فشَبَّكَ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم أصابِعَه واحدةً في الأُخْرى، وقال: دَخَلَتِ العُمْرَةُ في الحَجِّ- مَرَّتينِ- لا، بل لأبدٍ أبدٍ)) (17) .
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم نصَّ على أنَّ هذه العُمْرَةَ التي وقع السُّؤالُ عنها، وكانت عُمْرَة فَسْخ، هي لأبَدِ الأَبَدِ، لا تختصُّ بقَرْنٍ دون قَرْنٍ (18) .
ثانيًا: أنَّ فَسْخَ الحَجِّ إلى عُمْرَةٍ ليتمَتَّعَ بها؛ هو من بابِ الانتقالِ مِن الأَدْنى إلى الأَعْلى، وهو جائزٌ، وقد أمَرَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسَلَّم مَن نَذَرَ أن يصلِّيَ ركعتينِ في بيت المَقْدِس أن يُصَلِّيَهما في الحَرَم، فعن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، ((أنَّ رجلًا قام يومَ الفتحِ، فقال: يا رَسولَ اللهِ، إنِّي نَذَرْتُ لله إن فتَحَ اللهُ عليك مَكَّةَ، أن أصَلِّيَ في بيت المقْدِسِ ركعتينِ، قال: صلِّ هاهنا، ثم أعاد عليه، فقال: صلِّ هاهنا، ثم أعاد عليه، فقال: شأنُكَ إِذَن)) (19) .
المَطْلَب الرَّابِع: شُروطُ المُتَمَتِّع
الفرع الأوَّل: ما يُشتَرَط للتمَتُّعِ
المسألةُ الأولى: الإحرامُ بالعُمْرَةِ في أشْهُرِ الحَجِّ
يُشتَرَط للمُتمتِّعِ أن يُحْرِمَ بالعُمْرَةِ في أشهُرِ الحَجِّ.
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الإجماعِ
نقلَ الإجماعَ على ذلك ابنُ حَزْم (20) ، وابنُ عَبْدِ البَرِّ (21) ، وابنُ قُدامة (22) ، وابنُ أخيه ابنُ أبي عُمَرَ (23) .
ثانيًا: أنَّ شُهورَ الحَجِّ أحَقُّ بالحَجِّ من العُمْرَةِ؛ لأنَّ العُمْرَةَ جائزةٌ في السَّنَةِ كُلِّها، والحَجَّ إنَّما موضِعُه شهورٌ معلومةٌ، فإذا جعل أحدٌ العُمْرَةَ في أشهُرِ الحَجِّ ولم يأتِ في ذلك العامِ بِحَجٍّ، فقد جعلها في موضعٍ كان الحَجُّ أَوْلَى به (24) .
ثالثًا: أنَّه لم يَجْمَع بين النُّسُكين في أشهُرِ الحَجِّ، فلم تحصُلْ صورةُ التمَتُّع، فهو كالمُفْرِد (25) .
المسألة الثَّانية: أنْ يحُجَّ مِن عامِه
أن يُحْرِمَ بالحَجِّ في عامِه، فإنِ اعتَمَرَ في أشهُرِ الحَجِّ فلم يحُجَّ ذلك العامَ، بل حَجَّ في العامِ القابِلِ؛ فليس بمتمَتِّع.
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتاب
قال اللهُ تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ[البقرة: 196].
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أن هذا يقتضي الموالاةَ بين العُمْرَةِ والحَجِّ (26) .
ثانيًا: عن سعيدِ بنِ المسيب قال: ((كان أصحابُ رسولِ اللهِ صلي الله عليه وسلم يَعتَمِرونَ في أشهُرِ الحَجِّ، فإذا لم يحُجُّوا مِن عامِهم ذلك لم يَهْدُوا)) (27) .
ثالثًا: مِنَ الإجماعِ
نقلَ الإجماعَ على ذلك ابنُ حَزْم (28) ، وابنُ قُدامة (29) .
رابعًا: أنَّهم إذا أجمعوا على أنَّ مَنِ اعتمَرَ في غيرِ أشْهُرِ الحَجِّ ثم حجَّ مِن عامِه، فليس بمتمَتِّع؛ فهذا أَوْلى؛ لأنَّ التباعُدَ بينهما أكثَرُ (30) .
المسألة الثَّالِثة: عَدَمُ السَّفَرِ
يُشتَرَطُ للمتمَتِّع ألَّا يسافِرَ بين العُمْرَةِ والحَجِّ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهِيَّةِ الأربَعَةِ: الحَنَفيَّة (31) ، والمالِكِيَّة (32) ، والشَّافِعِيَّة (33) ، والحَنابِلَة (34) ، وبه قالَتْ طائِفةٌ مِنَ السَّلَف (35) ، وهو قولُ عامَّةِ أَهْلِ العِلْمِ (36) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتاب
قال تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة: 196].
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّه لا فَرْقَ بين حاضري المسجِدِ الحرامِ في عدم وُجوبِ الدَّمِ عليهم، وبين الآفاقِيِّينَ في وجوبِ الدَّمِ عليهم، إلا أنَّ الآفاقيينَ تَرَفَّهوا بإسقاطِ أحَدِ السَّفَرينِ عنهم، وإذا كان الأمرُ كذلك، فإذا سافروا بين الحَجِّ والعُمْرَةِ فلا يكونون قد ترفَّهوا بتَرْك أحَدِ السَّفَرينِ، فزال عنهم اسمُ التمتُّعِ وسَبَبُه (37) .
المسألة الرَّابِعة: نِيَّةُ المُتمَتِّعِ في ابتداءِ العُمْرَةِ أو في أثنائِها
اختلف أَهْلُ العِلْم في اشتراطِ نِيَّة المُتَمَتِّع في ابتداءِ العُمْرَةِ أو في أثنائِها على قولين:
القول الأوّل: لا تُشتَرَط نيَّةُ التمتُّعِ، وهو مَذْهَبُ الجُمْهورِ: الحَنَفيَّة (38) ، والمالِكِيَّة (39) ، والشَّافِعِيَّة- في الأصحِّ (40) - واختارَه ابنُ قُدامة مِنَ الحَنابِلَة (41) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتابِ:
قال تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ[البقرة: 196].
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
عمومُ الآية، فإنَّه لم يُشتَرَط فيها نيَّةُ التمتُّع، وتخصيصُه بها هو تخصيصٌ للقرآنِ بغير دليلٍ (42) .
ثانيًا: أنَّه لا يُحتاجُ إلى النيَّةِ؛ لأنَّ الدَّمَ يتعلَّقُ بترك الإحرامِ بالحَجِّ من الميقاتِ، وذلك يوجَدُ من غيرِ نِيَّةٍ (43) .
القول الثاني: يُشتَرَطُ نيَّةُ التمتُّعِ (44) ، وهذا مَذْهَبُ الحَنابِلَة (45) ، ووجهٌ للشافِعِيَّة (46) ، واختارَه ابنُ عُثيمين (47) ؛ وذلك لأنَّه جمَعَ بين عبادتينِ في وقتِ إحداهما، فافتقَرَ إلى نيَّة الجمعِ؛ كالجَمْعِ بين الصَّلاتينِ (48) .
الفرع الثَّاني: ما لا يُشتَرَط للتمتُّع
المسألة الأولى: كونُ الحَجِّ والعُمْرَةِ عن شخصٍ واحدٍ
لا يُشتَرَط كونُ الحَجِّ والعُمْرَةِ عن شخصٍ واحدٍ (49) ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهِيَّةِ الأربَعَة: الحَنَفيَّة (50) ، والمالِكِيَّة (51) ، والشَّافِعِيَّة (52) ، والحَنابِلَة (53) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتاب
قال تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ[البقرة: 196].
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ ظاهِرَ الآيةِ أنَّه لا يُعتَبَر وقوعُ النُّسُكينِ عن واحدٍ (54) .
ثانيًا: أنَّ مؤدِّيَ النُّسُكينِ شَخْصٌ واحدٌ (55) .
المسألة الثَّانية: تمَتُّعُ حاضِرِي المسجِدِ الحرامِ
لحاضِرِي المسجِدِ الحرامِ التمتُّعُ والقِرانُ، مِثْلُهم مِثْلُ الآفاقيِّ، لكِنْ يَسْقُطُ عنهم الدّمُ، وهذا مَذْهَبُ الجُمْهورِ: المالِكِيَّة (56) ، والشَّافِعِيَّة (57) ، والحَنابِلَة (58) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتاب
قال اللهُ تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ[البقرة: 196].
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ الآيةَ أثبتَتِ التمتُّعَ لحاضري المسجِدِ الحرامِ، وإنَّما نَفَتْ وُجوبَ الدَّمِ عليهم (59) .
ثانيًا: أنَّ حقيقةَ التمتُّعِ والقِرانِ موجودةٌ في حاضري المسجِدِ الحرامِ، كالآفاقيِّينَ، ولا فَرْقَ، وإنَّما يقع الخلافُ بينهم في وجوبِ الدَّمِ على الآفاقيِّينَ دون حاضِرِي المسجِدِ الحرام؛ بسبب ما حصل للآفاقِيِّينَ من الترفُّه بسقُوطِ أحَدِ السَّفَرينِ عنهم (60) .
ثالثًا: أنَّ ما كان من النُّسُك قُرْبةً وطاعةً في حَقِّ غيرِ حاضِرِي المسجدِ الحرامِ، كان قُربةً وطاعةً في حَقِّ حاضِرِي المسجِدِ الحرامِ؛ كالإفرادِ (61) .
المسألة الثَّالِثة: المقصودُ بحاضِرِي المسجِدِ الحرامِ
اختلف الفُقَهاءُ في حاضِرِي المسجِدِ الحرامِ الذين لا يجب عليهم دَمُ التمتُّعِ والقِرانِ إلى أقوالٍ؛ منها:
القول الأوّل: حاضِرُو المسجِدِ الحرامِ هم أهلُ مَكَّةَ، وأهْلُ الحَرَمِ، ومن كان مِنَ الحَرَمِ دون مسافَةِ القَصْرِ، وهو مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّة (62) ، والحَنابِلَة (63) ، واختاره الطَّبريُّ (64) .
وذلك للآتي:
أوَّلًا: لأنَّ الشَّارِعَ حَدَّ الحاضِرَ بدون مسافَةِ القَصْرِ، بنفي أحكامِ المسافرينَ عنه، فالاعتبارُ به أَوْلى من الاعتبارِ بالنُّسُك؛ لوجودِ لَفْظِ الحضورِ في الآيَةِ (65) .
ثانيًا: أنَّ حاضِرَ الشَّيءِ مَن دنا منه، ومَن دونَ مسافَةِ القَصْرِ قريبٌ في حُكْمِ الحاضِرِ؛ بدليل أنَّه إذا قَصَدَه لا يترخَّصُ رُخَصَ السَّفَر، فيكون مِن حاضِرِيه (66) .
القول الثاني: هُم أهْلُ الحَرَم، وهو قولُ طائفةٍ مِنَ السَّلَف (67) وقَدَّمَه صاحِبُ الفُروعِ (68) واستظهَرَه ابنُ حَجَرٍ (69) ، وأفتت به اللَّجْنَة الدَّائِمَة (70) واختارَه ابنُ عُثيمين (71) .
الدَّليلُ مِنَ الآثارِ:
قال ابنُ عباسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ[البقرة: 196] هم أهْلُ الحَرَمِ (72) .
المَطْلَب الخامس: أعمالُ المُتَمَتِّع
الفرع الأوَّل: طوافُ المتمَتِّع وسَعْيُه
يجبُ على المتمَتِّع طوافان وسَعيانِ، فيبدأ أوَّلًا بعُمْرَةٍ تامَّةٍ: فيطوف ويسعى، ثم يحلِقُ أو يُقَصِّر، ويتحلَّل منها، ثم يُحْرِم بالحَجِّ، ويأتي بطوافٍ للحَجِّ وسَعْيٍ له، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهِيَّةِ الأربَعَة: الحَنَفيَّة (73) ، والمالِكِيَّة (74) ، والشَّافِعِيَّة (75) ، والحَنابِلَة (76) ، وبه قالَتْ طائِفةٌ مِنَ السَّلَف (77) ، وحُكِيَ الإجماعُ على أنَّ المتمتِّعَ عليه طوافان: طوافٌ لِعُمْرَتِه، وطوافٌ لحَجِّه (78) .
الأدلَّة مِنَ السُّنَّةِ:
1- عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((فطاف الذين كانوا أهلُّوا بالعُمْرَةِ بالبيتِ وبين الصَّفا والمروة، ثم حَلُّوا، ثم طافوا طوافًا واحدا بعد أن رَجَعوا مِن مِنًى، وأمَّا الذين جمعوا الحَجَّ والعُمْرَةَ فإنَّما طافوا طوافًا واحدًا)) (79) .
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّه يدلُّ على الفَرْقِ بين القارِنِ والمتمَتِّع، وأنَّ القارِنَ يفعَلُ كفِعْلِ المُفرِدِ والمتمَتِّع؛ يطوف لعُمْرَتِه ويطوفُ لحَجِّه (80) .
2- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّه سُئِلَ عن متعةِ الحَجِّ، فقال: أهَلَّ المهاجرونَ والأنصارُ وأزواجُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم في حَجَّةِ الوداع وأهْلَلْنا، فلمَّا قَدِمْنا مَكَّةَ، قال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم: اجعلوا إهلالَكم بالحَجِّ عُمْرَةً إلَّا من قلَّدَ الهَدْيَ، فطُفْنا بالبَيت وبالصَّفا والمروة، وأتينا النِّساءَ، ولَبِسْنا الثِّيابَ، وقال: من قَلَّدَ الهديَ فإنَّه لا يَحِلُّ له حتى يبلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّه، ثم أمَرَنا عَشِيَّةَ التَّروِيَة أن نُهِلَّ بالحَجِّ، فإذا فَرَغْنا من المناسِكِ جِئْنا فطُفْنا بالبَيتِ وبالصَّفا والمروةِ، فقد تمَّ حَجُّنا وعلينا الهَدْيُ)) (81) .
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ الحديثَ صَريحٌ في أنَّ طوافَ المتمَتِّع وسَعْيَه مرَّتان: مرَّةٌ لعُمْرَتِه، ومَرَّةٌ لحَجِّه (82) .
الفرع الثَّاني: الهَدْيُ
يجب على المتَمَتِّع دمُ نُسُكٍ إذا لم يكُنْ مِن حاضِرِي المسجِدِ الحرامِ، فمَنْ لم يجِدْ فلْيَصُمْ ثلاثةَ أيَّامٍ في الحَجِّ وسبعةً إذا رَجَعَ.
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتاب
قولُه تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ[البقرة: 196].
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((تمتَّعَ النَّاسُ مع رسول الله صلَّى الله عليه وسَلَّم بالعُمْرَة إلى الحَجِّ... فلمَّا قَدِمَ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم قال للنَّاسِ:... مَن لم يكُنْ منكم أهدى فلْيَطُفْ بالبيتِ وبالصَّفا والمروةِ, وليُقَصِّر, وليحلل ثمَّ لْيُهِلَّ بالحَجِّ وليَهْدي, فمَنْ لم يجِدْ هديا فلْيَصُمْ ثلاثةَ أيَّامٍ في الحَجِّ وسبعةً إذا رجَعَ إلى أهْلِه)) (83) .
ثالثًا: مِنَ الآثارِ
عن أبي حمزةَ قال: ((سألتُ ابنَ عبَّاسٍ عن المتعَةِ، فأمرني بها، وسألْتُه عن الهَدْيِ: فقال: فيها جَزورٌ، أو بقرةٌ، أو شاة، أو شِرْكٌ في دَمٍ)) (84) .
رابعًا: مِنَ الإجماعِ
نقلَ الإجماعَ على ذلك: ابنُ المُنْذِر (85) ، وابنُ رُشْدٍ (86) ، والقرطبيُّ (87) ، وابنُ قُدامة (88) وابنُ مُفْلِحٍ (89) . والشَّوْكانيُّ (90) .
خامسًا: أنَّ حاضِرَ المسجِدِ الحرامِ ميقاتُه مَكَّة، ولا يحصُلُ له الترفُّه بتَرْكِ أحَدِ السَّفَرينِ، فهو أحرم من ميقاتِه، فأشبَهَ المُفْرِدَ (91) .
المطلب السادس: إجزاء التمتُّعِ عن الحَجِّ والعُمرةِ
يُجزِئُ التمتُّعُ في الحجِّ عن الحجِّ والعُمرةِ.
الدَّليلُ مِنَ الإجماعِ:
نقلَ الإجماعَ على ذلك ابن قُدامة (92) ، وابن تيميَّة (93) وبرهانُ الدِّين بن مفلح (94) .

الوافي 14-07-2021 04:01 AM

المبحث الأوَّل: تعريفُ مَحظوراتِ الإحرامِ والفِدْيةِ
المَطْلَب الأوَّل: تعريفُ محظوراتِ الإحرامِ
المحظوراتُ لغةً: جمعُ محظورٍ، وهو الممنوعُ (1) ، وهو من مرادفاتِ الحرامِ (2) .
ومحظوراتُ الإحرامِ اصطلاحًا: هي الممنوعاتُ التي يجِبُ على الْمُحْرِمِ اجتنابُها؛ بسبب إحرامِه ودُخُولِه في النُّسُكِ (3) .
المَطْلَب الثَّاني: تعريفُ الفِدْيةِ
الفِدْيةُ لغةً: أصْلُ الفِدْيةِ لغةً أن يُجعَلَ شيءٌ مكانَ شَيءٍ حِمًى له، ومنه فِدْيَةُ الأسيرِ، واستنقاذُه بمالٍ (4) .
الفِدْيةُ اصطلاحًا: هي ما يجِبُ لفِعْلِ محظورٍ أو تَرْكِ واجبٍ، وسُمِّيَت فديةً؛ لقوله تعالى: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ (5) [البقرة: 196].
المبحث الثَّاني: عددُ مَحظوراتِ الإحرامِ
محظوراتُ الإحرامِ التي تعُمُّ الرِّجالَ والنِّساءَ سَبْعةٌ:
1-حَلْقُ الشَّعْرِ.
2-تقليمُ الأظفارِ.
3-الطِّيبُ.
4-الصَّيدُ.
5-عقدُ النِّكاحِ.
6-الجِماعُ.
7-المُباشَرَةُ.
المحظوراتُ التي تختَصُّ بالرِّجالِ اثنتان:
1-لُبْسُ المَخِيطِ.
2-تَغْطيةُ الرَّأْسِ.
المحظوراتُ التي تختصُّ بالنِّساءِ اثنتان:
1-النِّقابُ.
2-لُبْسُ القُفَّازين (6) .
المبحث الثَّالِث: أقسامُ محظوراتِ الإحرامِ باعتبارِ الفِدْيةِ
تنقَسِمُ محظوراتُ الإحرامِ باعتبارِ الفِدْيةِ إلى أربعَةِ أقسامٍ:
القِسْم الأوَّل: ما فِدْيَتُه فِدْيةُ أذًى (فِدْيةُ الأذى: هي الدَّمُ، أو الإطعامُ، أو الصِّيامُ)
القِسْم الثَّاني: ما فِدْيَتُه الجزاءُ بِمِثْلِه: وهو الصَّيْدُ
القِسْم الثَّالِث: ما لا فِدْيَةَ فيه: وهو عَقْدُ النِّكاحِ
القِسْم الرَّابِع: ما فِدْيَتُه مغلَّظةٌ: وهو الجِماعُ

الوافي 14-07-2021 04:03 AM

المَطْلَب الأوَّل: أنواعُ محظوراتِ التَّرفُّهِ
تشمل محظوراتُ الترفُّهِ خَمسةَ محظوراتٍ:
المحظورُ الأوَّل: حَلْقُ الشَّعْر
المحظورُ الثَّاني: تقليمُ الأظْفارِ
المحظورُ الثَّالِث: الطِّيبُ
المحظورُ الرَّابِع: تغطيةُ الرَّأسِ
المحظور الخامس: لُبْسُ المَخيطِ
المَطْلَب الثَّاني: ما يجبُ على من ارتكَبَ شيئًا مِن محظوراتِ الترفُّهِ
مَن حَلَق أو قلَّم أظفارَه أو غطَّى رأسَه أو تطَيَّبَ أو لَبِسَ مَخِيطًا، فإنَّه يجب عليه في كلِّ ذلك فِدْيَةُ الأذى، فيُخيَّرُ بين: صيامِ ثلاثةِ أيَّامٍ، أو إطعامِ سِتَّةِ مساكينَ- لكلِّ مسكينٍ نصفُ صاعٍ- أو ذَبْحِ شاةٍ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهِيَّةِ الأربَعَة من: الحَنَفيَّة (1) ، والمالِكِيَّة (2) ، والشَّافِعِيَّة (3) ، والحَنابِلَة (4) ، وبه قال أكثرُ الفُقَهاء (5) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتاب
قولُه تعالى: وَلَا تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ (6) [ البقرة:196].
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
عن عبدِ اللهِ بنِ مَعْقِل، قال: جلسْتُ إلى كعْبِ بنِ عُجْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنه، فسألتُه عن الفِدْيَة، فقال: ((نزلت فيَّ خاصَّةً، وهي لكم عامَّةٌ؛ حُمِلتُ إلى رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم والقَمْلُ يتناثَرُ على وجهي، فقال: ما كنتُ أُرَى الوجَعَ بَلَغَ بك ما أَرَى- أو ما كنتُ أُرى الجَهْدَ بلغَ بك ما أَرَى- تَجِدُ شاةً؟ فقُلْتُ: لا، فقال: فصُمْ ثلاثةَ أيَّامٍ، أو أطعِمْ سِتَّةَ مساكينَ؛ لكُلِّ مسكينٍ نصفُ صاعٍ)) (7) .
المَطْلَب الثَّالِث: توزيعُ صَدَقَةِ فِدْيةِ الأذى على مساكينِ الحَرَمِ
يُشْتَرَط أن توزَّعَ صدقةُ فِدْيَةِ الأذى على مساكينِ الحَرَمِ، وهو مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّة (8) ، والحَنابِلَة (9) ، واختاره الشِّنْقيطيُّ (10) ، وابنُ باز (11) ، وابن عُثيمين (12) .
الدَّليلُ مِنَ الكِتابِ:
قولُه تعالى: هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ[المائدة: 95].
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ في حُكْمِ الهَدْيِ ما كان بدلًا عنه من الإطعامِ، فيجب أن يكون كذلك بالِغَ الكعبةِ (13) .
المَطْلَب الرَّابِع: موضِعُ صيامِ فِدْيَةِ الأذى وصِفَتُه
الفرع الأول: موضِعُ صيامِ فِدْيَةِ الأذى
يجوز صيامُ فِدْيَةِ الأذى في أيِّ موضعٍ.
الأدلة:
أولًا: من الإجماع
نقلَ الإجماعَ على ذلك: ابن جرير (14) ، والعيني (15) ، والشنقيطي (16) .
الفرع الثاني: صيام فدية الأذى مفرَّقًا ومتتابعًا
يجوز صيامُ فِدْيَةِ الأذى مُفرَّقًا ومُتتابِعًا، باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية (17) ، والمالكية (18) ، والشافعية (19) ، والحنابلة (20) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتاب
قوله تعالى: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ[البقرة: 196]
وجه الدلالة:
أنه أطلق اسْم الصَّوْمِ فِي النَّصِّ فدل على جواز التَّتَابُعُ وَالتَّفَرُّقُ (21) .
ثانيًا: أن الأصل عدم التتابع فالله تعالى لما أراد التتابع قال: فصيام شهرين متتابعين[المجادلة: 4]، ولما أراد الإطلاق قال: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ[البقرة: 196] (22) .
ثالثًا: أنَّ الصيامَ لا يتعدَّى نفعُه لأحدٍ؛ لذا لا يُقتَصَر على مكانٍ بِعَينِه (23) .
المَطْلَب الخامِسُ: ارتكابُ محظوراتِ فِدْيةِ الأذى عَمْدًا
لا فَرْقَ في التخييرِ في فِديَة الأذى بين من ارتَكَبَ المحظورَ بعُذرٍ، أو كان عَمْدًا، وهذا مَذْهَبُ الجُمْهورِ: المالِكِيَّة (24) ، والشَّافِعِيَّة (25) ، والحَنابِلَة (26) ؛ وذلك لأنَّ الله تعالى أوجَبَ الفِدْيةَ على من حَلَقَ رأسَه لأذًى به وهو معذورٌ، فكان ذلك تنبيهًا على وُجوبِها على غيرِ المعذورِ (27) .
المَطْلَب السَّادِسُ: فِعْلُ المحظوراتِ نِسْيانًا أو جَهْلًا أو إكراهًا
مَن فَعَلَ شيئًا من محظوراتِ الإحرامِ ناسيًا أو جاهلًا أو مُكرَهًا فلا شيءَ عليه، سواءٌ كان صيدًا أو جِماعًا أو غَيْرَهما، وسواء كان فيه إتلافٌ أو لم يكُنْ، وهو مَذْهَبُ الظَّاهِريَّةِ (28) ، وطائفةٍ مِنَ السَّلَف (29) ، واختارَه ابنُ المُنْذِر (30) ، وابنُ عُثيمين (31) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتاب
1- قَوْلُه تعالى: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا[البقرة: 286]، فقال الله: ((قد فعلْتُ)) (32) .
2- قَوْلُه تعالى: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ[الأحزاب: 5].
3- قَوْلُه تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ[النحل: 106].
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ الكُفْرَ إذا كان يسقُطُ مُوجِبُه بالإكراهِ، فما دونه من بابِ أَوْلى (33) .
4- قَوْلُه تعالى في قَتْلِ الصَّيدِ: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ[المائدة: 95].
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ قوله: مُتَعَمِّدًا وصفٌ مناسبٌ للحُكْمِ، فوجب أن يكون معتَبَرًا؛ لأنَّ الأوصافَ التي عُلِّقَتْ بها الأحكامُ إذا تبَيَّنَ مناسَبَتُها لها، صارت علةً موجِبةً، يوجد الحُكْمُ بوجودِها، وينتفي بانتفائِها، وإلَّا لم يكن للوَصْفِ فائدةٌ (34) .
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عَن عُمَرَ بْنِ الخَطَّاب رَضِيَ اللهُ عنه مرفوعًا: ((أين الذي سأل عن العُمْرَةِ؟ فأُتِيَ برجل، فقال: اغسِلِ الطِّيبَ الذي بك ثلاثَ مرَّاتٍ، وانزِعْ عنك الجُبَّة، واصنَعْ في عُمْرَتِك كما تصنَعُ في حجَّتِك، قلتُ لعطاءٍ: أراد الإنقاءَ حين أمره أن يغْسِلَ ثلاثَ مرَّاتٍ؟ قال: نعم)) (35) .
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّه لم يأمُرِ الرجُلَ الذي لَبِسَ الجبَّة وتضمَّخَ بالطِّيبِ بالكفَّارة؛ وذلك بسبَبِ جَهْلِه بالحُكْم، واكتفى بأمْرِه أن ينزِعَ الجبَّة، وأن يغسِلَ عنه أثَرَ الطِّيبِ (36) .
2- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، عَنِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم أنَّه قال: ((إنَّ اللهَ وضع عن أمَّتي الخطَأَ والنِّسيانَ وما استُكْرِهوا عليه)) (37) .
ثالثًا: مِنَ الآثارِ
عن قَبيصَةَ بن جابرٍ الأَسديِّ: (أنَّه سمِعَ عُمَرَ بنَ الخطَّاب, ومعه عبدُ الرَّحمن بنُ عوفٍ, وعُمَرُ يسأل رجلًا قتلَ ظبْيًا وهو مُحْرِمٌ، فقال له عمر: أعَمْدًا قتلْتَه أم خطأً؟ قال الرجلُ: لقد تعمَّدْتُ رمْيَه، وما أردْتُ قَتْلَه, فقال عُمَرُ: ما أَراك إلَّا قد أشرَكْتَ بين العَمْدِ والخطأِ; اعمِدْ إلى شاةٍ فاذْبَحْها، وتصَدَّقْ بلَحْمِها وأسْقِ (38) إهابَها) (39) .
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّه لو كان العمْدُ والخطأُ في ذلك سواءً عند عمر؛ لَما سأَلَه (أعَمْدًا قتلْتَه أم خطأً؟)، وكان ذلك فضولًا من السُّؤالِ لا معنى له (40) .
رابعًا: أنَّ الكفَّارة إنَّما تَجِبُ إذا وقعت الجنايةُ بارتكابِ المحظورِ؛ لفداءِ النَّفْسِ من المخالَفَةِ وللتَّكفيرِ عن الذَّنْبِ، ومع الجَهْلِ أو النسيانِ أو الإكراهِ لا جنايةَ؛ لأنَّهم لم يتعمَّدوا المخالَفةَ فلا معنى للكفَّارة (41) .
خامسًا: أنَّ ما سِوى هذا القَولِ ظاهِرُ الفسادِ والتَّناقُضِ، فما يُرَخِّصُ به أحدُهم في حالٍ، يمنَعُه الآخَرُ (42) .
المَطْلَب السابع: تَكرارُ المحظورِ
الفرع الأوَّل: تَكرارُ محظورٍ مِن جنسٍ واحدٍ
إذا كرَّرَ محظورًا مِن جنسٍ واحدٍ، كلُبْسِ قَميصٍ، ولُبْسِ سراويلَ، ولم يَفْدِ فإنَّه يفدي مرةً واحدةً، أمَّا إنْ فدى عن الأَوَّلِ فعليه للثَّاني فِدْيَةٌ، وهو مَذْهَبُ الحَنابِلَة (43) ، وبه قال محمَّدُ بنُ الحَسَنِ الشَّيبانيُّ من الحَنَفيَّة (44) ، وهو قَوْلُ الشَّافعي في القديمِ (45) ، واختارَه ابنُ باز (46) ، وابنُ عُثيمين (47) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتاب
قولُه تعالى: وَلَا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ[البقرة: 196].
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ اللهَ تعالى أوجَبَ لحَلْقِ الرَّأسِ فديةً واحدةً، ولم يُفَرِّقْ بين ما وقع في دَفعةٍ أو دفعاتٍ، ثمَّ إنَّ الحَلْقَ لا يكون إلَّا شيئًا بعد شيءٍ، فهو ارتكابُ محظوراتٍ متتاليةٍ من جنسٍ واحدٍ، ومع ذلك لم يُوجِبْ فيه إلَّا فديةً واحدةً (48) .
ثانيًا: أنَّ ما تداخَلَ متتابعًا، كحَلقِ شَعَراتٍ، تداخَلَ متَفَرِّقًا، كالأحداثِ والحُدودِ (49) .
فإنْ كَفَّرَ عن الأوَّلِ ثمَّ ارتكبَ المحظورَ فإنَّه يلزَمُه فديةٌ أخرى؛ للآتي:
أوَّلًا: أنَّه بالمحظورِ الثَّاني صادف إحرامًا؛ فوجَبَتْ فيه الفِدْيةُ، كما وجَبَت على المحظورِ الأوَّلِ، وقياسًا على الحدودِ والأيمانِ (50) .
ثانيًا: أنَّه لَمَّا كفَّرَ للأَوَّلِ فقد التحقَ المحظورُ الأوَّلُ بالعَدَم؛ فيُعتَبَر الثَّاني محظورًا آخَرَ مُبتدَأً، كما إذا جامَعَ في يومينِ مِن شَهرِ رَمضانَ (51) .
الفرع الثَّاني: تَكرارُ محظورٍ مِن أجناسٍ مُختلفةٍ
إذا كرَّر محظورًا من أجناسٍ مختلفة؛ كطِيبٍ، ولُبسِ مَخِيطٍ، فإنَّه يَفْدي لكلِّ محظورٍ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهِيَّةِ الأربَعَةِ: الحَنَفيَّة (52) ، والمالِكِيَّة (53) ، والشَّافِعِيَّة (54) ، والحَنابِلَة (55) .
وذلك للآتي:
أوَّلًا: أنَّها محظوراتٌ مختلفةُ الأجناسِ، فلم تتداخَلْ أجزاؤُها؛ كالحدودِ المختلفةِ (56) .
ثانيًا: أنَّ السَّببَ الموجِبَ للكفَّارة الثَّانية غيرُ عَيْنِ السَّبَبِ الموجِبِ للكفَّارةِ الأولى، أشْبَه ما لو حَلَف ثم حَنِثَ وكفَّر، ثم حلَفَ وحَنِثَ (57) .
الفرع الثَّالِث: أن يكونَ المحظورُ صَيدًا
إذا كان المحظورُ صَيدًا، فإنَّ الفِديةَ تتعَدَّدُ بتعدُّدِ الصَّيدِ (58) ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهِيَّةِ الأربَعَةِ: الحَنَفيَّة (59) ، والمالِكِيَّة (60) ، والشَّافِعِيَّة (61) ، والحَنابِلَة (62) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتاب
قولُه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ[المائدة: 95].
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ الآيةَ تدلُّ على أنَّ مَن قتل صيدًا لَزِمَه مِثْلُه, ومَن قَتلَ أكثَرَ لَزِمَه مِثلُ ذلك (63) .
ثانيًا: أنَّه لو قَتلَ أكثَرَ معًا تعدَّدَ الجزاءُ, فمُتَفَرِّقًا أَوْلى؛ لأنَّ حالَ التفريقِ ليس أنقَصَ كسائِرِ المحظوراتِ (64) .
ثالثًا: أنَّها كفَّارةُ قَتْلٍ, كقَتْلِ الآدميِّ, أو بدَل مُتْلَفٍ, كبَدلِ مالِ الآدميِّ؛ فتتعَدَّد (65) .

الوافي 14-07-2021 04:04 AM

المَطْلَب الأوَّل: حَلْقُ شَعْرِ الرَّأسِ
الفرع الأوَّل: حُكْمُ حَلْقِ شَعْرِ الرَّأسِ للمُحرِم
حَلْقُ شَعْرِ الرَّأسِ من محظوراتِ الإحرامِ.
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتاب
قولُه تعالى: وَلَا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ[البقرة: 196].
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
عن كَعْبِ بنِ عُجْرَةَ، رَضِي اللَّه عنه، قال: ((أتى عليَّ النَّبِيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم زمنَ الحُدَيبِيَةِ والقَمْلُ يتناثَرُ على وجهي فقال: أيُؤْذيك هوامُّ رَأسِك؟ قُلْتُ: نعم. قال: فاحْلِقْ، وصُمْ ثلاثةَ أيَّامٍ، أو أطعِمْ سِتَّةَ مساكينَ، أو انْسُكْ نَسيكَةً)) (1) .
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّه رتَّبَ فديةَ الأذى على حَلْقِ الرَّأسِ (2) .
ثالثا: مِنَ الإجماعِ
نقلَ الإجماعَ على ذلك ابنُ المُنْذِر (3) , والنَّوَوِيُّ (4) .
الفرع الثَّاني: حُكْمُ أَخْذِ شَعَراتٍ مِنَ الرَّأسِ
إذا أخذ شعَراتٍ مِن رأَسْه فإنَّه يَحْرُمُ عليه؛ لأنَّ الْمُحْرِمَ نُهِيَ عن حَلْقِ شَعْر رأسِه، وهو يشمَلُ القليلَ والكثيرَ، والقاعدةُ أنَّ امتثالَ الأمرِ لا يتِمُّ إلا بفِعلِ جَميعِه، وامتثالَ النَّهْيِ لا يتِمُّ إلَّا بتَرْكِ جميعِه، لكِنَّ الفِدْيةَ لا تجِبُ إلَّا بحَلقِ ما يحصُلُ به الترفُّهُ وزَوالُ الأذى (5) .
المَطْلَب الثَّاني: حَلْقُ شَعْرِ غَيرِ الرَّأسِ
الفرع الأوَّل: حُكْمُ حَلْقِ شَعْرٍ غَيرِ شَعْرِ الرَّأسِ
اختلف أَهْل العِلْم في حَلْقِ شَعْرٍ غيرِ شَعْرِ الرَّأسِ (6) هل هو من محظوراتِ الإحرامِ أو لا على قولين:
القول الأوّل: أنَّه محظورٌ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهِيَّةِ الأربَعَة: الحَنَفيَّة (7) ، والمالِكِيَّة (8) ، والشَّافِعِيَّة (9) ، والحَنابِلَة (10) ، وحُكِيَ فيه الإجماعُ (11) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الآثارِ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّه قال في قوله تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ[الحَجُّ: 29]: (التَّفَثُ: الرَّمْيُ، والذَّبْح، والحَلْق والتَّقصير، والأخذُ مِنَ الشَّارب، والأظفارِ، واللِّحْيَة) (12) .
ثانيًا: قياسًا لشعْرِ الجَسَد على شعْرِ الرأس؛ بجامعِ أنَّ الكُلَّ يحصُلُ بحَلْقِه الترفُّه، والتنظُّف، وهو ينافي الإحرامَ؛ لكون المُحْرِم أشعَثَ أغبَرَ (13) .
القول الثاني: أنَّه لا يُحظَرُ حَلْقُ غيرِ شَعرِ الرَّأسِ، وهذا مَذْهَبُ أهلِ الظَّاهِرِ (14) ، وقوَّاه ابنُ عُثيمين (15) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: أنَّ النصَّ جاءَ بتحريمِ حَلْقِ الرأس فقط، ولا يصِحُّ قياسُ غيرِه عليه؛ لأنَّ حَلْقَ الرَّأسِ يتعلَّقُ به نُسُكٌ، وهو الحَلْقُ أو التَّقصيرُ، فإنَّ المُحْرِمَ إذا حلَقَ رأسَه فإنَّه يُسقِطُ به نُسُكًا مشروعًا، وغيرُه لا يساويه في ذلك (16) .
ثانيًا: أنَّ الأصلَ الحِلُّ، فلا يُمنَع أحدٌ مِن أخْذِ شيءٍ مِن شَعْرِه إلَّا بدليلٍ (17) .
ثالثًا: أنَّ المُحْرِمَ ليس ممنوعًا من الترفُّه في الأكلِ؛ فله أن يأكُلَ مِنَ الطَّيِّباتِ ما شاء، ولا من الترفُّه في اللِّباسِ؛ فله أن يَلْبَسَ من الثيابِ التي تجوزُ في الإحرامِ ما يشاءُ، ولا من الترفُّه بإزالة الأوساخِ؛ فله أن يغتَسِلَ ويُزيلَ الأوساخَ (18) .
المَطْلَب الثَّالِث: ما يجبُ مِنَ الفِديَةِ في حَلْقِ شَعْرِ الرَّأسِ
يجبُ في حَلْقِ شعْرِ الرَّأسِ فديةُ الأذى: ذبحُ شاةٍ، أو صيامُ ثلاثةِ أيَّامٍ، أو إطعامُ ستَّةِ مساكينَ.
الأدلَّة
أوَّلًا: مِنَ الكِتاب
قولُه تعالى: وَلَا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ[البقرة: 196].
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
عن كعْبِ بنِ عُجْرَة رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((أتى عليَّ النبيُّ صلَّى الله عليه وسَلَّم زَمَنَ الحُدَيْبِيَة والقَمْلُ يتناثَرُ على وجهي، فقال: أيؤذيكَ هوامُّ رأسِك؟ قُلْتُ: نعم. قال: فاحْلِقْ، وصُمْ ثلاثةَ أيَّامٍ، أو أطْعِمْ سِتَّةَ مَساكينَ، أو انْسُكْ نَسيكَةً)) (19) .
ثالثًا: مِنَ الإجماعِ
نقلَ الإجماعَ على ذلك ابنُ المُنْذِر (20) ، وابنُ عَبْدِ البَرِّ (21) .
المَطْلَب الرَّابِعُ: متى تجِبُ الفِدْيةُ في حَلْقِ الشَّعْرِ؟
تجبُ الفِدْيةُ في حلْقِ الشَّعْرِ إذا حلَقَ ما يحصُلُ به إماطةُ الأذى (22) ، وهو مَذْهَبُ المالِكِيَّة (23) ، واختارَه ابنُ حزمٍ (24) ، وابنُ عَبْدِ البَرِّ (25) ، وابنُ عُثيمين (26) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتاب
قولُه تعالى: وَلَا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ[البقرة: 196].
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ حلْقَ شَعْرِ الرَّأسِ مِن أذًى به، لا يكونُ إلَّا بمقدارِ ما يُماطُ به الأذى (27) .
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عن كعْبِ بنِ عُجْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((أتى عليَّ النبيُّ صلَّى الله عليه وسَلَّم زَمَنَ الحُدَيْبِيَة والقَمْلُ يتناثَرُ على وجهي، فقال: أيؤذيكَ هوامُّ رأسِك؟ قُلْتُ: نعم. قال: فاحْلِقْ، وصُمْ ثلاثةَ أيَّامٍ، أو أطْعِمْ سِتَّةَ مَساكينَ، أو انْسُكْ نَسيكَةً)) (28) .
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ الكفَّارة إنما تجِبُ في حَلْقِ الرَّأسِ في مِثلِ ما أوجَبَه رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم على كعْبِ بنِ عُجْرَةَ، وهو حلْقُ ما يُماطُ به الأذى (29) .
2- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسَلَّم احتجَمَ- وهو مُحْرِمٌ- في رأسِه)) (30) .
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ الحِجَامةَ في الرَّأْسِ من ضرورتِها أن يُحلَقَ الشَّعْرُ من مكانِ المَحاجِم، ولا يُمكِنُ سِوى ذلك، ولم يُنقَلْ عَنِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم أنَّه افتدى؛ لأنَّ الشَّعْرَ الذي يُزالُ من أجْلِ المَحاجِم لا يُماطُ به الأذى، فهو قليلٌ بالنِّسبةِ لبَقِيَّةِ الشَّعْرِ (31) .
المَطْلَب الخامسُ: غَسْلُ رأسِ المُحْرِمِ وتَخْليلُه
لا بأْسَ أن يَغْسِلَ المُحْرِم رأسَه، ويُخَلِّلَه ويَحُكُّه برِفْقٍ (32) ، وهذا مَذْهَبُ الجُمْهورِ: الحَنَفيَّة (33) ، والشَّافِعِيَّة (34) ، والحَنابِلَة (35) ، والظَّاهِريَّة (36) ، وقولٌ للمالِكِيَّة (37) ، وهو قَوْلُ جماعةٍ مِنَ السَّلَف (38) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عن عبدِ اللهِ بنِ حُنينٍ: ((أنَّ عبدَ اللهِ بنَ العبَّاسِ والْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمةَ اختلفا بالأبواءِ، فقال عبدُ اللهِ بنُ عبَّاسٍ: يَغْسِلُ المُحْرِمُ رأسَه، وقال الْمِسْوَرُ: لا يَغْسِلُ المُحْرِمُ رأسَه، فأرسَلَني عبدُ اللهِ بنُ العبَّاسِ إلى أبي أيُّوبَ الأنصاريِّ، فوجَدْتُه يغتَسِلُ بين القَرْنينِ وهو يُسْتَرُ بثوبٍ، فسَلَّمْتُ عليه، فقال: مَنْ هذا؟ فقُلْتُ: أنا عبدُ اللهِ بنُ حُنَينٍ، أرسلَني إليك عبدُ اللهِ بنُ العبَّاسِ أسألُك: كيف كان رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم يغْسِلُ رأسَه وهو مُحْرِمٌ؟ فوضع أبو أيُّوبَ يَدَه على الثَّوْبِ فطأطأَه حتى بدا لي رأسُه، ثم قال لإنسانٍ يَصُبُّ عليه: اصْبُبْ، فصَبَّ على رأْسِه، ثم حَرَّكَ رأسَه بِيَدَيْه، فأقبَلَ بهما وأدبَرَ، وقال: هكذا رأيتُه صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم يفعَلُ)) (39) .
2- عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها ((أنَّها حاضت ولم تطْهُرْ حتى دخلَتْ ليلةُ عرفةَ، فقالت: يا رَسولَ الله، هذه ليلةُ عَرَفةَ، وإنَّما كنتُ تمتَّعْتُ بعُمْرَةٍ، فقال لها رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم: انقُضي رأسَكِ، وامتَشِطي، وأَمْسِكي عن عُمْرَتِكِ)) (40) .
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم أمَرَها بأن تنقُضَ رأسَها، وتمتَشِطَ وهي مُحرِمةٌ (41) .
ثانيًا: مِنَ الآثارِ
- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: (المُحْرِمُ يدخُلُ الحمَّامَ، ويَنْزِعُ ضِرسَه، ويشم الريحان، وإذا انكسر ظُفْرُه طَرَحه، ويقول: أميطوا عنكم الأذى؛ فإنَّ اللهَ لا يَصنَعُ بأذاكم شيئًا) (42) .
- أنَّه قولُ ابنِ عباسٍ، وأبي أيوبَ الأنصاريِّ رَضِيَ اللهُ عنهما، كما تقدَّمَ ذِكْرُ ذلك عنهم في القِصَّة التي جرت بينهم في الأبواءِ.

الوافي 14-07-2021 04:05 AM

المَطْلَب الأوَّل: حُكْمُ إزالةِ الأظفارِ للمُحْرِم
المُحْرِمَ ممنوعٌ من إزالةِ أظفارِه (1) ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهِيَّةِ الأربَعَةِ: الحَنَفيَّة (2) ، والمالِكِيَّة (3) ، والشَّافِعِيَّة (4) ، والحَنابِلَة (5) ، وحُكِيَ فيه الإجماعُ (6) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتاب
قولُه تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ[الحَجُّ: 29].
ثالثًا: مِنَ الآثارِ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّه قال في تفسيرِ آيةِ الحَجِّ: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ: (التَّفَثُ: الرَّمْيُ، والذَّبْحُ، والحَلْق والتَّقصيرُ، والأخْذُ من الشارِبِ، والأظفارِ، واللِّحيةِ) (7) .
وجهُ الدَّلالَة مِنَ الآيةِ والأثَرِ:
أنَّ قَلْمَ الأظفارِ مِن قضاءِ التَّفَثِ كما جاء عنِ ابنِ عبَّاسٍ وغيرِه مِنَ السَّلَفِ، وقد رتَّبَ اللهُ تعالى قضاءَ التَّفَثِ على الذَّبْحِ؛ لأنَّه ذَكَرَه بكلمةٍ موضوعةٍ للتَّرتيبِ مع التَّراخي؛ مِمَّا يدُلُّ على كَوْنِ قَصِّ الأظفارِ ونحوه ينبغي أن يكونَ بعد النَّحْرِ (8) .
رابعا: أنَّه إزالةُ جزءٍ ينمو مِن بَدَنِه، يقضي به تَفَثَه، ويَتَرَفَّهُ بإزالَتِه، أشْبَهَ الشَّعْرَ (9) .
المَطْلَب الثَّالِث: ما يجِبُ من الفِدْيةِ في تقليمِ الأظفارِ:
يجبُ في تقليمِ الأظفارِ فِديةُ الأذى، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهِيَّةِ الأربَعَةِ: الحَنَفيَّة (10) ، والمالِكِيَّة (11) ، والشَّافِعِيَّة (12) ، والحَنابِلَة (13) ، وبه قال أكثرُ أَهْلِ العِلْمِ (14) ؛ وذلك لأنَّه أزال ما مُنِعَ إزالَتُه لأجلِ الترفُّهِ، فوجبت عليه الفِدْيةُ؛ كحَلْقِ الشَّعْر، وعدمُ النَّصِّ لا يمنَعُ قياسَه على المنصوصِ؛ كشَعْرِ البَدَنِ مع شَعْرِ الرَّأْسِ (15) .
المَطْلَب الرَّابِع: قَصُّ ما انكسَرَ مِنَ الظُّفْرِ
إنِ انكسَرَ ظُفْرُه فله قَصُّ ما انكسَرَ منه، ولا شيءَ عليه.
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتاب
قولُه تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ[البقرة:185].
وانكسارُ الظُّفْرِ يَغْلِبُ في الأسفارِ، وهذا يوجِبُ الرُّخْصةَ فيه (16) .
ثانيًا: مِنَ الآثارِ
عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: (المُحْرِمُ يدخُلُ الحمَّامَ، ويَنْزِعُ ضِرسَه، ويَشَمُّ الرَّيحانِ، وإذا انكسر ظُفُرُه طَرَحه، ويقول: أميطُوا عنكم الأذى؛ فإنَّ اللهَ لا يَصنَعُ بأذاكم شيئًا) (17) .
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّه قولُ صحابيٍّ، ولا يُعرَفُ له مخالِفٌ من الصَّحابَةِ رَضِيَ اللهُ عنهم (18) .
ثالثًا: مِنَ الإجماعِ
نقلَ الإجماعَ على ذلك ابنُ المُنْذِر (19) وابنُ قُدامة (20) .
رابعًا: أنَّ بقاءَه يُؤلِمُه، أشْبَهَ الشَّعْرَ النَّابِتَ في عَينِه (21) .
خامسًا: أنَّه إزالةٌ لأذاه، فلم يكُنْ عليه فِدْيةٌ؛ كقَتْلِ الصَّيدِ الصَّائِلِ (22) .
سادسًا: أنَّه بعد الكَسْرِ لا ينمو، فهو كحَطَبِ شَجَرِ الحَرَمِ (23) .

الوافي 14-07-2021 04:05 AM

المَطْلَب الأوَّل: حُكْمُ الطِّيبِ للمُحْرِم
الطِّيبُ مِن محظوراتِ الإحرامِ في البَدَنِ والثَّوْبِ.
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، عَنِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم أنَّه قال فيما يجتَنِبُه المُحْرِمُ: ((ولا ثوبًا مَسَّه الزعفرانٌ ولا وَرْسٌ (1) )) (2) .
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّه نهى المُحْرِمَ عن الزَّعفرانِ، والزَّعفرانُ فيه تنبيهٌ على الكافورِ والمِسْكِ وما في معناهما مِنَ الطِّيبِ؛ لأنَّه إذا مَنَعَ مِن أَدْوَنِ الطِّيبِ، فأعلاه بالمَنْعِ أَوْلى (3) .
2- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما بينا رجُلٌ واقِفٌ مع النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعَرفةَ، إذ وقَعَ عن راحِلَتِه فوَقَصَتْه- أو قال: فأوقَصَتْه- فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((اغسِلُوه بماءٍ وسِدرٍ، وكفِّنوه في ثَوبينِ، ولا تُمِسُّوه طيبًا، ولا تُخَمِّروا رأسَه، ولا تحَنِّطوه؛ فإنَّ الله يبعَثُه يومَ القيامةِ مُلَبِّيًا)) (4)
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّه لَمَّا مُنِعَ الميتُ مِنَ الطِّيبِ لإحرامِه؛ فالحيُّ أَوْلى (5) .
3- عن يَعْلى بنِ أمَيَّةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((بينما النبيُّ صلَّى الله عليه وسَلَّم بالجِعْرانَةِ (6) ، ومعه نفَرٌ من أصحابِه، جاءه رجلٌ، فقال: يا رَسولَ الله، كيف ترى في رجلٍ أحرمَ بعُمْرَةٍ، وهو مُتَضَمِّخٌ (7) بطيبٍ؟ فسكت النبيُّ صلَّى الله عليه وسَلَّم ساعةً، فجاءه الوحيُ، فأشار عمَرُ رَضِيَ الله عنه إلى يَعلَى، فجاء يَعلَى، وعلى رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم ثوبٌ قد أظَلَّ به فأدخَلَ رأسَه، فإذا رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ مُحمَرُّ الوَجهِ وهو يغُطُّ، ثم سُرِّي عنه، فقال: أين الذي سألَ عن العُمْرَةِ؟ فأُتِي برجُلٍ، فقال: اغسِلِ الطِّيبَ الذي بك ثلاثَ مرَّاتٍ، وانزِعْ عنك الجُبَّة، واصْنَعْ في عُمْرَتِك كما تصنَعُ في حَجَّتِك)) (8) قلتُ لعطاءٍ: أراد الإنقاءَ حين أمَرَه أن يَغسِلَ ثلاثَ مرَّاتٍ؟ قال: نعم.
ثانيًا: مِنَ الإجماعِ
نقلَ الإجماعَ على ذلك ابنُ المُنْذِر (9) ، وابنُ حَزْمٍ (10) ، وابنُ عَبْدِ البَرِّ (11) ، وابنُ قُدامة (12) ، والنَّوَوِيُّ (13) .
المَطْلَب الثَّاني: الحِكْمةُ مِن تحريمِ الطِّيبِ على المُحْرِم
مِن حِكَمِ تحريمِ الطِّيبِ على المُحْرِم (14) :
1- أنَّه يُبعِدُ المُحْرِمَ عن الترفُّهِ وزينةِ الدُّنيا وملاذِّها، ويجتمِعُ همُّه لمقاصِدِ الآخرةِ.
2- أنَّ الطِّيبَ مِن دواعي الوَطْءِ وأسبابِ تحريكِ الشَّهوةِ، فتحريمُه من بابِ سدِّ الذريعةِ؛ واللهُ تعالى يقول: فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة: 197].
المَطْلَب الثَّالِث: الفِدْيةُ في الطِّيبِ
إذا تطيَّبَ المحْرِمُ عمدًا فعليه الفِدْيةُ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهِيَّةِ الأربَعَةِ: الحَنَفيَّة (15) ، والمالِكِيَّة (16) ، والشَّافِعِيَّة (17) ، والحَنابِلَة (18) ؛ وذلك قياسًا على الفِدْيةِ في حَلْقِ الرأسِ (19) .
المَطْلَب الرَّابِع: هل يُشتَرَطُ في الفِدْية تطييبُ العُضوِ كاملًا؟
لا يُشتَرَط في لزومِ الفِدْية بالطِّيبِ أن يُطَيَّبَ العُضوُ كامِلًا، وهو مَذْهَبُ الجُمْهورِ مِنَ المالِكِيَّة (20) ، والشَّافِعِيَّة (21) ، والحَنابِلَة (22) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: عمومُ الأدلَّة في الفِدْيةِ، التي لم تُفَرِّقْ بين القليلِ والكثيرِ، ولا بين تطييبِ العُضْوِ كاملًا أو بَعضِه (23) .
ثانيًا: أنَّه معنًى حصل به الاستمتاعُ بالمحظورِ، فاعتُبِرَ بمجَرَّدِ الفِعلِ كالوَطءِ (24) .
ثالثًا: أنَّ التطَيُّبَ عادةً لا يكونُ لعُضوٍ كاملٍ (25) .
المَطْلَب الرَّابِع: حُكْمُ استعمالِ البَخورِ
حُكْمُ البَخورِ هو حُكْمُ استعمالِ الطِّيبِ، وهذا مَذْهَبُ الجُمْهورِ مِنَ المالِكِيَّة (26) ، والشَّافِعِيَّة (27) ، والحَنابِلَة (28) ؛ وذلك لأنَّه يَصْدُقُ على من تبخَّرَ أنَّه تطيَّبَ؛ فالعودُ الذي يُتبخَّرُ به طِيبٌ (29) .

الوافي 14-07-2021 04:06 AM

المَطْلَب الأوَّل: حُكْمُ تغطيةِ الرَّأسِ للذَّكَر
تغطيةُ الرَّأسِ للذَّكَر مِن محظوراتِ الإحرامِ، سواءٌ تغطِيَتُه بالطَّاقيَّة، أو الغُتْرَة، أو العِمامةِ، وما أشبهَ ذلك.
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما بينا رجُلٌ واقف مع النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة إذ وقع عن راحلته فوقصته - أو قال: فأوقصته - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبين، ولا تمسوه طيبا، ولا تخمروا رأسه، ولا تحنطوه، فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبيا)) (1)
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّه علَّل مَنْعَ تخميرِ رأسْهِ ببقائِه على إحرامِه، فعُلِمَ أنَّ المُحْرِم ممنوعٌ منه؛ فإنَّ المُحْرِمَّ الحيَّ أَوْلى مِنَ المُحْرِم الميِّتِ (2) .
2- عَنْ عبدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما ((أنَّ رجُلًا قال: يا رَسولَ اللهِ، ما يلبَسُ المُحْرِمُ مِنَ الثِّيابِ؟ قال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم: لا تَلْبَسوا القُمُصَ، ولا العمائِمَ، ولا السَّراويلاتِ، ولا البَرانِسَ، ولا الخِفافَ...)) (3) .
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ ذِكْرَ العِمامةِ بعد ذِكْر البَرانِسَ دليلٌ على أنَّه لا يجوزُ تغطيةُ الرَّأسِ لا بِمُعتادِ اللِّباسِ، ولا بنادِرِه (4) .
ثانيًا: مِنَ الإجماعِ
نقلَ الإجماعَ على ذلك ابنُ المُنْذِر (5) ، وابنُ عَبْدِ البَرِّ (6) ، وابنُ رُشْدٍ (7) ، وابنُ القَيِّمِ (8) .
المَطْلَب الثَّاني: سَتْر الرَّأسِ بما يُحْمَل عليه
إذا حَمَلَ المُحْرِمُ على رأسِه شيئًا فسَتَرَ رأسَه؛ فإنَّه لا يلزَمُه شيءٌ (9) ، إذا لم يقْصِدْ به التغطِيةَ، باتِّفاقِ المذاهِبِ الفقهيَّةِ الأربعةِ: الحنفيَّة (10) ، والمالكيَّة (11) ، والشَّافِعِيَّة (12) ، والحَنابِلَة (13) .
وذلك للآتي:
أوَّلًا: أنَّه لا يُقصَد به السَّترُ (14) .
ثانيًا: أنَّه لا يُسْتَرُ بمثلِه عادةً (15) .
المَطْلَب الثَّالِث: الاستظلالُ وأنواعُه
الفرع الأوَّل: الاستظلالُ بمُنْفَصِلٍ غيرِ تابعٍ
يجوز أن يَستَظِلَّ بمنفصِلٍ عنه (ثابت)، غيرِ تابعٍ، كالاستظلالِ بخَيمةٍ، أو شَجَرةٍ.
الأدلَّة:
أوَّلًا: من السُّنَّة:
عن جابرٍ رَضِيَ الله عنه: ((لَمَّا كان يومُ التَّرويةِ تَوجَّهوا إلى مِنًى، فأهَلُّوا بالحَجِّ، وركِبَ رَسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فصلى بها الظُّهرَ والعَصرَ والمغرِبَ والعِشاءَ والفَجرَ، ثم مكثَ قليلًا حتى طلَعَت الشَّمسُ، وأمر بقُبَّةٍ مِن شَعرٍ تُضرَبُ له بنَمِرةَ، فسار رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ولا تَشُكُّ قُريشٌ إلَّا أنَّه واقِفٌ عند المشعَرِ الحرامِ، كما كانت قريشٌ تَصنعُ في الجاهليَّةِ، فأجاز رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم حتى أتى عَرَفةَ، فوجد القُبَّةَ قد ضُرِبَت له بنَمِرةَ، فنزَلَ بها. حتى إذا زاغَتِ الشَّمسُ أمَرَ بالقَصواءِ، فرُحِلَت له)) (16) .
ثانيًا: مِنَ الإجماعِ
نقلَ الإجماعَ على ذلك :ابنُ عَبْدِ البَرِّ (17) ، وابنُ قُدامة (18) ، والنَّوَوِيُّ (19) .
الفرع الثَّاني: الاستظلالُ بمنفصِلٍ تابعٍ له
يجوز أن يستظلَّ بتابعٍ له منفصِلٍ، كالشَّمسيَّة والسَّيارة، ومحمَلِ البَعيرِ، وما أشبهه، وهو مَذْهَبُ الحنفيَّة (20) ، والشَّافِعِيَّة (21) ، وروايةٌ عن أحمَدَ (22) ، وبه قالت طائفةٌ من السَّلفِ (23) ، واختارَه ابنُ المُنْذِر (24) ، وابنُ القيِّم (25) ، والشَّوْكانيُّ (26) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: من السُّنَّة:
عن أم الحصين رضي الله عنها قالت: ((حَججتُ مع رسولِ الله صلَّى الله عليه وسَلَّم حَجَّةَ الوَداعِ، فرأيتُ أُسامةَ وبلالًا، وأحدُهما آخِذٌ بخِطامِ ناقةِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم، والآخَرُ رافعٌ ثوبَه يستُرُه من الحرِّ، حتَّى رمَى جمرَةَ العَقبةِ)) (27) .
ثانيًا: قياسًا على الاستظلالِ بالحائِطِ؛ إذ لا يُقصَدُ بذلك الاستدامةُ، فلم يكن به بأسٌ (28) .
ثالثًا:استصحابًا للأصل؛ فما يحلُّ للحلالِ يَحِلُّ للمُحْرِم، إلَّا ما قام على تحريمِه دليلٌ (29) .
المَطْلَب الثَّاني: الفِدْيةُ في تغطيةِ الرَّأسِ
تجب في تغطيةِ الرَّأسِ الفِدْيةُ بذبحِ شاةٍ، أو صيامِ ثلاثةِ أيَّامٍ، أو إطعامِ ستَّة مساكينَ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهِيَّةِ الأربَعَة مِنَ الحَنَفيَّة (30) ، والمالِكِيَّة (31) ، والشَّافِعِيَّة (32) ، والحَنابِلَة (33) ؛ وذلك قياسًا على الفِدْيةِ في حلْقِ الرَّأس، بجامِعِ أنَّه استمتاعٌ مَحْضٌ، وترفُّهٌ باستعمالِ محظورٍ (34) .
المَطْلَب الثَّالِث: مقدارُ تغطية الرَّأسِ الذي تجبُ فيه الفِدْيةُ
لا يُشتَرَط لوجوبِ الفِدْيةِ سَتْرُ جميعِ الرَّأس، وهو مَذْهَبُ الجُمْهورِ مِنَ المالِكِيَّة (35) ، والشَّافِعِيَّة (36) ، والحَنابِلَة (37) .
وذلك للآتي:
أوَّلًا: عمومُ الأدلَّة في الفِدْية، التي لم تُفَرِّقْ بين القليلِ والكثيرِ، ولا بين سَتْرِ جميعِ الرَّأس أو بعضِه (38) .
ثانيًا: أنَّه معنًى حصل به الاستمتاعُ بالمحظورِ، فاعتُبِرَ بمجرَّدِ الفِعْلِ؛كالوَطْء (39) .
ثالثًا: أنَّ الانتفاعَ بتغطيةِ الرَّأس يحصُلُ في البعضِ، فتجب الفِدْيةُ بذلك (40) .
رابعًا: القياسُ على عدم اشتراطِ حَلْقِ جَميعِ شَعْرِ الرَّأسِ لوجوب الفِدْية (41) .
المَطْلَب الرَّابِع: حُكْمُ تغطيةِ الوَجْهِ للمُحْرِمِ
تغطيةُ الوجهِ للمُحْرِم مباحٌ، وهو مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّة (42) والحَنابِلَة (43) ، وبه قال طائفة مِنَ السَّلَفِ (44) , وابنُ حَزْم (45) ، واختارَه ابنُ عُثيمين (46) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، عَنِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم أنَّه قال: ((ولا تُخَمِّروا رأسَه؛ فإنَّ اللهَ يبعَثُه يومَ القيامة مُلَبِّيًا)) (47) .
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ النَّصَّ خَصَّ الرَّأسَ بالنهيِ عن التغطيةِ، فمفهومُه يقتضي جوازَ تغطيةِ غيرِه (48) .
ثانيًا: مِنَ الآثارِ
1- عن عبدِ الرحمن بن القاسم، عن أبيه: ((أنَّ عُثمانَ بنَ عفَّانَ وزيدَ بنَ ثابتٍ ومَرْوانَ بنِ الحَكَمِ كانوا يُخَمِّرونَ وُجوهَهم وهُم حُرُمٌ)) (49) .
2- عن عبدِ اللهِ بنِ عامرِ بنِ ربيعةَ قال: ((رأيتُ عُثمانَ بالعَرْجِ (50) وهو مُحْرِمٌ في يومٍ صائفٍ، قد غطَّى وجْهَه بقطيفةِ أُرْجُوانٍ (51) )) (52) .
ولا يعرف لهؤلاء الصَّحابَة مخالف منهم (53) .
ثالثا: أنَّ الأصل هو الإباحة (54) .


الوافي 14-07-2021 04:07 AM

تمهيدٌ: تعريفُ المَخِيطِ
المَخِيطُ: هو المفصَّلُ على قَدْرِ البَدَن أو العُضْوِ، بحيث يُحيطُ به، ويستمْسِكُ عليه بنَفْسِه، سواءٌ كان بخياطةٍ أو غيرِها، مثل: القميص، والسَّراويل، ونحو ذلك (1) .
المَطْلَب الأوَّل: حُكْمُ لُبْسِ المَخِيطِ للذَّكَر
لُبْسُ المَخِيطِ للذَّكَرِ مِن محظوراتِ الإحرامِ (2) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عن يَعْلى بنِ أمَيَّةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((بينما النبيُّ صلَّى الله عليه وسَلَّم بالجِعْرانَةِ (3) ، ومعه نفَرٌ من أصحابِه، جاءه رجلٌ، فقال: يا رَسولَ الله، كيف ترى في رجلٍ أحرمَ بعُمْرَةٍ، وهو مُتَضَمِّخٌ (4) بطيبٍ؟ فسكت النبيُّ صلَّى الله عليه وسَلَّم ساعةً، فجاءه الوحيُ، فأشار عُمَرُ رضِيَ اللهُ عنه إلي يَعلَى، فجاء يَعلَى، وعلى رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم ثَوبٌ قد أظَلَّ به، فأدخَلَ رأسَه، فإذا رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ مُحمَرُّ الوَجهِ وهو يغُطُّ، ثم سُرِّي عنه، فقال: أين الذي سألَ عن العُمْرَةِ؟ فأُتِي برجُلٍ، فقال: اغسِلِ الطِّيبَ الذي بك ثلاثَ مرَّاتٍ، وانزِعْ عنك الجُبَّة، واصْنَعْ في عُمْرَتِك كما تصنَعُ في حَجَّتِك)) (5) .
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ قَوْلَه: ((وانزِعْ عنك الجُبَّة)) دلَّ على عدم جوازِ لُبْسِ المَخِيط للمُحْرِم، ومن ذلك لُبْسُ الجبَّة (6) .
2- عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّ رجلًا سأل رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم: ما يلبَسُ المُحْرِمُ مِنَ الثِّيابِ؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم: لا تَلْبَسوا القُمُصَ، ولا العمائِمَ، ولا السَّراويلاتِ، ولا البَرانِسَ، ولا الخِفافَ)) (7) .
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم نهى عن خمسةِ أنواعٍ مِنَ اللِّباسِ تشملُ جميعَ ما يَحْرُم، وذلك أنَّ اللِّباسَ إمَّا أن يُصنَع للبَدَن فقط: فهو القَميصُ وما في معناه، أو للرَّأسِ فقط: وهو العِمامةُ وما في معناها، أوْ لَهما: وهو البُرْنُسُ وما في معناه، أو للفَخِذَينِ والسَّاق: وهو السَّراويلُ وما في معناها، أو للرِّجلينِ: وهو الخُفُّ ونحوه (8) .
ثانيًا: مِنَ الإجماعِ
نقلَ الإجماعَ على ذلك ابنُ المُنْذِر (9) ، وابنُ حَزْم (10) ، وابنُ عَبْدِ البَرِّ (11) ، وابنُ رشدٍ (12) .
المسألةُ الثَّانيةُ: لُبْسُ المرأةِ المَخِيطَ لغيرِ الوَجْهِ والكَفَّينِ
يجوزُ للمرأةِ المُحْرِمةِ أن تَلْبَسَ المَخِيطَ لغيرِ الوَجْهِ والكَفَّينِ.
الدليلُ مِنَ الإجماعِ:
نقلَ الإجماعَ على ذلك: ابنُ المُنْذِر (13) وابنُ عَبْدِ البَرِّ (14) وابنُ رُشْدٍ (15) .
المسألة الثَّالِثة: لُبْسُ الخِفافِ للمُحْرِمِ الذَّكَرِ
لُبْسُ الخُفِّ (16) حرامٌ على الرجُلِ المُحْرِم، سواءٌ كان الخُفُّ صحيحًا أو مُخَرَّقًا، إلَّا لِمَن لم يجِدِ النَّعلينِ.
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم قال: ((إلَّا أحَدٌ لا يجِدُ النَّعلينِ فلْيَلْبَسِ الخُفَّينِ، ولْيَقْطَعْهما أسفَلَ مِنَ الكعبينِ)) (17) .
2- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: سَمِعْتُ النَّبي صلَّى الله عليه وسَلَّم يَخْطُبُ بعَرَفَاتٍ: ((مَن لم يجِدْ النَّعْلينِ فلْيَلْبَسْ الخُفَّينِ، ومَن لم يجِدْ إزارًا فلْيَلْبَسْ سَراويلَ)) (18) .
3- عن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم: ((مَن لم يَجِدْ نَعْلينِ فلْيَلْبَسْ خُفَّينِ، ومَن لم يَجِدْ إزارًا فلْيَلْبَسْ سَراويلَ)) (19) .
ثانيًا: مِنَ الإجماعِ
نقلَ الإجماعَ على ذلك ابنُ المُنْذِر (20) ، والنَّوَوِيُّ (21) .
المسألة الرَّابِعةُ: حُكْمُ قَطْعِ الخُفَّينِ لِمَن لم يَجِدْ نَعْلينِ
مَن لم يَجِدْ نَعْلينِ فلَبِسَ خُفَّينِ، لا يجِبُ عليه قَطْعُهما، وهو مَذْهَبُ الحَنابِلَة (22) ، وبه قالَتْ طائِفةٌ مِنَ السَّلَف (23) ، واختارَه ابنُ تيميَّة (24) ، وابنُ القَيِّمِ (25) ، وابنُ باز (26) ، وابنُ عُثيمين (27) .
الأدلَّة مِنَ السُّنَّةِ:
1- عن عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم يخطُبُ بعَرَفاتٍ: ((مَن لم يَجِدِ النَّعلينِ فلْيَلْبَسِ الخُفَّينِ، ومن لم يجِدْ إزارًا فلْيَلْبَسِ السَّراويلَ)) (28) .
2- عن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم: ((مَن لم يجِدْ نَعْلينِ فلْيَلْبَسْ خُفَّينِ، ومن لم يجِدْ إزارًا فلْيَلْبَسْ سَراويلَ)) (29) .
وَجْهُ الدَّلالَة مِنَ الحَديثينِ:
أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم أذِنَ في لُبْسِ الخُفَّينِ عند فَقْدِ النَّعلينِ، ولم يأمُرْ بقَطْعِهما، وتأخيرُ البيانِ عَن وقْتِ الحاجَةِ غيرُ جائزٍ، فلو كان القطْعُ واجبًا لبَيَّنَه صلَّى الله عليه وسَلَّم (30) .
المَطْلَب الثَّاني: لُبْسُ المُحْرِمِ للخاتَمِ
يجوز للمُحْرِم لُبْسُ الخاتَمِ (31) ، وذلك مذهَبُ الجُمْهورِ: الحَنَفيَّة (32) والشَّافِعِيَّة (33) والحَنابِلَة (34) وهو قولٌ عند المالِكِيَّة (35)
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الآثارِ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: لا بأسَ بالخاتَمِ للمُحْرِمِ (36) .
ثانيًا: أنَّه لا دليلَ يمنَعُ المُحْرِمَ مِنْ لُبْسِ الخاتَمِ (37) .
المَطْلَب الرَّابِع: لُبْسُ الهِمْيانِ (وعاءُ النَّفَقةِ)
يجوز للمُحْرِمِ لُبْسُ الهِمْيانِ (38) ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهِيَّةِ الأربَعَةِ: الحَنَفيَّة (39) ، والمالِكِيَّة (40) ، والشَّافِعِيَّة (41) ، والحَنابِلَة (42) ، وهو مَذْهَبُ الظَّاهِريَّة (43) ، وبه قال أكثرُ العُلَماءِ (44) ، وطائفةٌ مِنَ السَّلَف (45) ، وحُكي في ذلك الإجماعُ (46) .
الأدلَّة:
أَوَّلًا: مِنَ الآثارِ
عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّها سُئِلَتْ عن الهِمْيانِ للمُحْرِم، فقالت: وما بأسٌ؛ لِيَسْتَوثِق مِن نَفَقَتِه (47) .
ثانيًا: أنَّ الهِمْيانَ لا يدخُلُ في المنهيِّ عنه لا بالنَّصِّ ولا بالمعنى (48) .
ثالثًا: أنَّ شَدَّ الهِمْيانِ في الوَسَطِ هو ضرورةُ حِفْظِ النَّفقةِ، ومِمَّا تدعو الحاجةُ إليه؛ فجاز كعَقْدِ الإزارِ (49) .
مَسْألةٌ: عَقْدُ الرِّداءِ
يجوزُ عَقْدُ الرِّداءِ عند الحاجةِ، وهو قولُ بعض الشَّافِعِيَّة (50) ، اختاره الجُوَينيُّ، والغزاليُّ (51) ، وهو قول ابنُ حَزْمٍ (52) ، وابنُ تيميَّة (53) ، وابنُ عُثيمين (54) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
سُئِلَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسَلَّم عمَّا يَلْبَسُ المُحْرِمَ، فقال: ((لا يلبَسِ القمصَ، ولا العمائِمَ، ولا السَّراويلاتِ، ولا البرانِسَ، ولا الخِفافَ)) (55) .
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ إجابَتَه صلَّى الله عليه وسَلَّم بما لا يُلْبَسُ عن السُّؤالِ عمَّا يُلْبَسُ؛ دليلٌ على أنَّ كُلَّ ما عدا هذه المذكوراتِ مِمَّا يلْبَسُه المُحْرِمُ (56) .
ثانيًا: أنَّه لم يَرِدْ في ذلك منعٌ عَنِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم، وليس هو في معنى المنصوصِ على مَنْعِه (57) .
ثالثًا: أنَّ الرداءَ وإن عُقِدَ، لا يخرُجُ عن كونِه رداءً (58) .
مَسْألةٌ: عَقْدُ الإزارِ للمُحْرِمِ
يجوز عَقْدُ الإزارِ للمُحْرِم إذا لم يَثْبُتْ ويستمْسِكْ إلَّا بذلك (59) ، وهو مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّة (60) ، والحَنابِلَة (61) ، واختارَه ابنُ حزم (62) ، وابنُ تيميَّة (63) ، وابنُ باز (64) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
سُئِلَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسَلَّم عما يلبَسُ المُحْرِمَ، فقال: ((لا يلبَسِ القمصَ، ولا العمائِمَ، ولا السَّراويلات، ولا البرانِسَ، ولا الخِفافَ)) (65) .
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ إجابَتَه صلَّى الله عليه وسَلَّم بما لا يُلْبَسُ عن السُّؤالِ عمَّا يُلْبَسُ؛ دليلٌ على أنَّ كُلَّ ما عدا هذه المذكوراتِ مِمَّا يلْبَسُه المُحْرِمُ (66) .
ثانيًا: أنَّه لم يَرِدْ في ذلك منعٌ عَنِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم، وليس هو في معنى المنصوصِ على مَنْعِه (67) .
ثالثًا: أنَّ فيه مصلحةً له، وهو أن يَثْبُت عليه (68) .
رابعًا: أنَّه يُحتاجُ إليه لسَتْرِ العورةِ، فيباحُ، كاللِّباسِ للمرأةِ (69) .
المَطْلَب الخامس: سَتْرُ المُحْرِمةِ وَجْهَها
الفرع الأوَّل: سَتْرُ المُحْرِمةِ وَجْهَها بالنِّقابِ
أَوَّلًا: تعريفُ النِّقابِ
النِّقابُ هو: لباسُ الوَجْهِ؛ وهو أن تَسْتُرَ المرأةُ وَجْهَها، وتفتَحَ لِعَيْنَيها بقَدْرِ ما تنظُرُ منه (70) .
ثانيًا: حُكْمُ النِّقابِ للمُحْرِمةِ
لُبْسُ النِّقابِ من محظوراتِ الإحرامِ على المرأة، باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهِيَّةِ الأربَعَةِ: الحَنَفيَّة (71) ، والمالِكِيَّة (72) ، والشَّافِعِيَّة (73) ، والحَنابِلَة (74) ، وبه قالَتْ طائِفةٌ مِنَ السَّلَف (75) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، عَنِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم أنَّه قال: ((ولا تنتَقِبِ المرأةُ المُحْرِمةُ، ولا تَلْبَسِ القُفَّازينِ)) (76) .
ثانيًا: أنَّه قولٌ ثابتٌ عن طائفةٍ من الصَّحابَة رَضِيَ اللهُ عنهم، ولا مخالِفَ لهم (77) .
الفرع الثَّاني: سَتْرُ المُحْرِمةِ وَجْهَها بغيرِ النِّقاب
اختلف أَهْلُ العِلْمِ في تغطيةِ المُحْرِمةِ وَجْهَها بغيرِ النِّقابِ على قولينِ:
القول الأوّل: لا يجوزُ تغطيةُ المُحْرِمةِ وَجْهَها إلَّا لحاجةٍ، كمرورِ الأجانبِ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهِيَّةِ الأربَعَةِ: الحَنَفيَّة (78) ، والمالِكِيَّة (79) ، والشَّافِعِيَّة (80) ، والحَنابِلَة (81) ، وهو قولُ طائفةٍ مِنَ السَّلَف (82) ، وحُكِيَ الإجماعُ على ذلك (83) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، عَنِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم أنَّه قال: ((ولا تتنقِبِ المُحْرِمةُ)) (84) .
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ قَوْلَه: ((لا تتنقِبِ المُحْرِمةُ)) معناه: لا تَسْتُر وَجْهَها (85) فتُمنَع المرأةُ من البُرقُعِ والنِّقاب ونحوهما مِمَّا يُعَدُّ لسَتْرِ الوَجْه (86) .
ثانيًا: مِنَ الآثارِ
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((إحرامُ المرأةِ في وَجْهِها، وإحرامُ الرَّجُلِ في رأسِه)) (87) .
ثالثًا: أنَّ الوجهَ مِنَ المرأةِ يَجِبُ كَشْفُه، كالرَّأسِ من الرَّجُلِ (88) .
القول الثاني: يجوز للمُحْرِمة تغطيةُ وَجْهِها مطلقًا بدون نقابٍ، وهو قولٌ في مذهَبِ الحَنابِلَة (89) ، وهو قولُ ابنِ حَزْمٍ (90) ، وابنِ تيميَّة (91) ، وابنِ القَيِّمِ (92) ، والصنعانيِّ (93) ، والشَّوْكانيِّ (94) ، وابنِ باز (95) ، وابنِ عُثيمين (96) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الآثارِ
1- عن مُعاذَةَ عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((المُحْرِمةُ تَلْبَسُ من الثيابِ ما شاءتْ إلَّا ثوبًا مَسَّهُ وَرْسٌ أو زعفرانٌ، ولا تتبَرْقَعُ ولا تَلَثَّمُ، وتَسْدُلُ الثَّوبَ على وَجْهِها إن شاءَت)) (97) .
قال ابنُ القَيِّمِ: نساؤُه صلَّى الله عليه وسَلَّم أعلَمُ الأُمَّةِ بهذه المسألَةِ (98) .
2- عن أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قالت: ((كنَّا نُغَطِّي وُجوهَنا مِنَ الرِّجالِ، وكُنَّا نَمْتَشِطُ قبل ذلك في الإحرامِ)) (99) .
3- عن فاطمةَ بنتِ المُنْذِرِ أنَّها قالت: ((كنا نُخَمِّرُ وُجوهَنا ونحن مُحْرِماتٌ، مع أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ)) (100) .
ثانيًا: أنَّه لم يَرِد عَنِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم أنَّه حرَّم على المُحْرِمةِ تغطيةَ وَجْهِها، وإنَّما هذا قولُ بعضِ السَّلَف (101) .
ثالثًا: أنَّه كما يجوز تغطيةُ الكَفِّ مِن غيرِ لُبْسِ القُفَّازينِ، فيجوز كذلك تغطيةُ الوَجهِ مِن غيرِ لُبْسِ النِّقابِ، وقد قرن النبيُّ صلَّى الله عليه وسَلَّم بينهما، وهما كبَدَنِ الرَّجُلِ، يجوز تغطِيتُه، ولا يجوز لُبْسُ شيءٍ مُفَصَّلٍ عليه (102) .
رابعًا: أنَّ بالمرأةِ حاجةً إلى سَتْرِ وَجْهِها، فلم يَحْرُمْ عليها سَتْرُه على الإطلاقِ، كالعَورةِ (103) .
خامسًا: أنَّ النَّهيَ إنما جاء عن النِّقاب فقط، والنِّقابُ أخَصُّ من تغطيَةِ الوجهِ، والنهيُ عن الأخصِّ لا يقتضي النَّهيَ عن الأعمِّ؛ وإنَّما جاء النهيُ عن النقابِ؛ لأنَّه لُبْسٌ مُفَصَّلٌ على العضوِ، صُنِعَ لِسَتْرِ الوجه، كالقُفَّاز المصنوعِ لسَتْرِ اليد، والقميصِ المصنوعِ لسَتْرِ البَدَنِ، وقد اتَّفقَ الأئمةُ على أنَّ للمُحْرِمِ أن يستُرَ يديه ورِجْلَيه مع أنَّه نُهِيَ عن لُبْسِ القميصِ والخُفِّ (104) .
الفرع الثَّالِث: حُكْمُ تغطيةِ المُحْرِمةِ وَجْهَها بما يَمَسُّه
لا تُكَلَّفُ المرأةُ أن تجافِيَ سُتْرَتَها عن الوَجْهِ؛ لا بعودٍ ولا بِيَدٍ ولا غيرِ ذلك، فيجوز أن تَسْتُرَ وَجْهَها للحاجةِ؛ كالسَّتْرِ عن أعيُنِ النَّاسِ، بثوبٍ تَسْدُله من فوقِ رَأْسِها، وهذا مَذْهَبُ المالِكِيَّة (105) ، والحَنابِلَة (106) ، واختارَه ابنُ قُدامة (107) ، وابنُ تيميَّة (108) .
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الآثارِ
1- عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((المُحْرِمةُ تلبَسُ مِنَ الثِّيابِ ما شاءت إلَّا ثوبًا مَسَّه ورْسٌ أو زعفرانٌ، ولا تَتَبرقَعُ ولا تَلَثَّمُ، وتَسْدُلُ الثَّوبَ على وَجْهِها إن شاءت)) (109) .
2- عن أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قالت: ((كنَّا نُغَطِّي وُجوهَنا مِنَ الرِّجالِ، وكُنَّا نَمْتَشِطُ قبل ذلك في الإحرامِ)) (110) .
3- عن فاطمةَ بنتِ المُنْذِرِ أنَّها قالت: ((كنا نُخَمِّرُ وُجوهَنا ونحن مُحْرِماتٌ، مع أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ)) (111) .
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ أزواجَ النبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم، ونساءَ الصَّحابَة رَضِيَ اللهُ عنهنَّ؛ كنَّ يَسْدُلْنَ على وجوهِهنَّ مِن غيرِ مراعاةِ المجافاةِ (112) .
ثانيًا: أنَّ الثَّوبَ المسدولَ لا يكادُ يَسْلَمُ من إصابة البَشَرةِ، فلو كان هذا شرطًا لبُيِّنَ، وإنَّما مُنِعَتِ المرأةُ مِنَ البُرقُعِ والنِّقاب ونحوهما، مِمَّا يُعدُّ لسَتْرِ الوجهِ (113) .
المَطْلَب السادس: لُبْسُ القُفَّازينِ للمُحْرِمةِ
تمهيدٌ: تعريفُ القُفَّازينِ
القفَّازانِ: شيءٌ يُعمَلُ لليدينِ، يغَطِّي الأصابِعَ مع الكَفِّ (114) .
الفرع الأوَّل: حُكْمُ لُبْسِ القُفَّازينِ للمُحْرِمة
يَحْرُمُ على المُحْرِمةِ لُبْسُ القفَّازينِ، وهو مَذْهَبُ الجُمْهورِ: المالِكِيَّة (115) ، والشَّافِعِيَّة (116) ، والحَنابِلَة (117) ، وبه قالَتْ طائِفةٌ مِنَ السَّلَف (118) .
الدَّليلُ مِنَ السُّنَّةِ:
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، عَنِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم أنَّه قال: ((لا تنتقِبِ المرأةُ المُحْرِمةُ، ولا تلبَسِ القُفَّازينِ)) (119) .
الفرع الثَّاني: حُكْمُ لُبْسِ القُفَّازينِ للرجُلِ
يَحْرُمُ على الرَّجلِ لُبْسُ القُفَّازينِ.
الدَّليلُ مِنَ الإجماعِ:
نقلَ الإجماعَ على ذلك النَّوَوِيُّ (120) ، وابنُ قُدامة (121) ، والشِّنْقيطيُّ (122) .
المَطْلَب السَّابع: الفِدْيةُ في لُبْسِ المَخِيطِ
يجِبُ في لُبْسِ المُحْرِم المَخِيطَ فديةُ الأذى: ذبحُ شاةٍ، أو صيامُ ثلاثةِ أيَّامٍ، أو إطعامُ ستَّةِ مساكينَ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهِيَّةِ الأربَعَةِ: الحَنَفيَّة (123) ، والمالِكِيَّة (124) ، والشَّافِعِيَّة (125) ، والحَنابِلَة (126) ؛ وذلك قياسًا على الفِدْيةِ في حَلْقِ الرَّأس، بجامِعِ أنَّه زينةٌ وترَفُّهٌ باستعمالِ محظورٍ (127) .
المَطْلَب الثَّامِنُ: متى تجِبُ الفِدْيةُ بلُبْسِ المَخِيطِ؟
تجب الفِدْيةُ بمجَرَّدِ اللُّبْسِ، ولو لم يستَمِرَّ زمنًا، وهو مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّة (128) ، والحَنابِلَة (129) ؛ وذلك لأنَّه استمتاعٌ يحصُلُ بمجَرَّدِ الفِعْلِ؛ كالوَطْء في الفَرْجِ (130) .
المطلب التاسع: ما فِدْيتُه الجزاءُ بمِثلِه: وهو الصَّيدِ
سيأتي في بابِ الصَّيدِ.

الوافي 14-07-2021 04:08 AM

المبحثُ الأوَّل: حُكْمُ عَقْدِ النِّكاحِ للمُحْرِم

يَحْرُمُ عَقْدُ النِّكاحِ على المُحْرِمِ، ولا يصِحُّ، سواءٌ كان المُحْرِمُ الوَلِيَّ، أو الزَّوجَ، أو الزَّوجةَ، ولا فديةَ فيه، وهذا مَذْهَبُ الجُمْهورِ: المالِكِيَّة (1) ، والشَّافِعِيَّة (2) ، والحَنابِلَة (3) ، والظَّاهِريَّة (4) ، وهو قولُ طائفةٍ مِنَ السَّلَفِ (5) .

الأدلَّة:

أ- أَدِلَّة تحريمِ النِّكاحِ وعَدَمِ صِحَّتِه

أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ

عن عثمانَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم يقول: ((لا يَنكِحِ المُحْرِمُ، ولا يُنكِحْ، ولا يَخْطُبْ)) (6) .

وَجْهُ الدَّلالَةِ:

أنَّه منهيٌّ عنه لهذا الحديثِ الصَّحيحِ، والنهيُ يقتضي الفسادَ (7) .

ثانيًا: مِنَ الآثارِ

1- عن أَبِي غَطَفَانَ بْنِ طَرِيفٍ الْمُرِّيِّ ((أنَّ أباه طَرِيفًا تزوَّجَ امرأةً وهو مُحْرِم، فردَّ عُمَرُ بنُ الخطَّابِ نكاحَه)) (8) .

2- عن نبيه بنِ وهبٍ: أنَّ عُمَرَ بنَ عُبَيدِ اللهِ أراد أن يُزَوِّجَ طلحةَ بنَ عُمَرَ بنتَ شيبةَ بنِ جُبيرٍ، فأرسل إلى أبانَ بنِ عُثمانَ ليَحْضُرَه ذلك، وهما مُحْرِمان، فأنكر ذلك عليه أبانُ، وقال: سَمِعْتُ عثمانَ بنَ عفَّانَ رَضِيَ اللهُ عنه يقول: قال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم: ((لا يَنْكِحِ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكِحْ وَلا يَخْطُبْ)) (9) .

ورُوِيَ ذلك: عن عليٍّ وابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهم، وليس يُعْرَفُ لهما من الصَّحابَة مخالِفٌ (10) .

ثالثًا: إجماعُ أهْلِ المَدينةِ

عن سعيدِ بنِ المُسَيِّبِ: ((أنَّ رجلًا تزوَّجَ وهو مُحْرِمٌ، فأجمَعَ أهلُ المدينةِ على أن يُفرَّقَ بينهما)) (11) .

رابعًا: أنَّ الإحرامَ معنًى يَمنَعُ مِنَ الوَطءِ ودواعيه، فوجَبَ أن يَمْنَعَ من النِّكاحِ، كالطِّيبِ (12) .

خامسًا: أنَّه عقدٌ يمنعُ الإحرامُ مِن مقصودِه وهو الوَطْءُ، فمُنِعَ أصلُه، كشِراءِ الصَّيْدِ (13) .

ب- أَدِلَّةُ عَدَمِ وجوبِ الفِدْيةِ فيه

أوَّلًا: عدمُ الدَّليلِ على وجوبِ الفِدْيةِ، والأصلُ براءةُ الذِّمَّةِ (14) .

ثانيًا: أنَّه وسيلةٌ، وغيرُه- أي: مِنَ المحظوراتِ الأخرى- مقصِدٌ، والذي يُجبَر إنَّما هو المقاصِدُ (15) .

ثالثًا: أنَّه فَسَدَ لأجلِ الإحرامِ، فلم يجِبْ به فديةٌ، كشِراءِ الصَّيدِ (16) .

الوافي 14-07-2021 04:09 AM

المبحث الثَّاني: الخِطْبةُ للمُحْرِمِ

لأَهْلِ العِلْم في خِطبةِ المُحْرِم قولانِ:

القول الأوّل: تُكْرَه الخِطْبةُ للمُحْرِم، والمُحْرِمةِ، ويُكْرَه للمُحْرِم أن يخطُبَ للمُحِلِّينَ، وهو مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّة (1) ، والحَنابِلَة (2) ، واختيارُ ابنِ قُدامة (3) .

الأدلَّة:

أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ

عن عثمانَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعْتُ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم يقول: ((لا يَنْكِحِ الْمُحْرِمُ، وَلَا يُنْكِحْ، وَلا يَخْطُبْ)) (4) .

ثانيًا: مِنَ الآثارِ

عَنْ عبدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّه كان يقول: ((لَا يَنْكِحِ الْمُحْرِمُ، وَلَا يَخْطُبْ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا عَلَى غَيْرِهِ)) (5) .

ثالثًا: أنَّ النكاحَ لا يجوز للمُحْرِم، فكُرِهَتِ الخِطبةُ له (6) .

رابعًا: أنَّه تسبَّبَ إلى الحرامِ، فأشبَهَ الإشارةَ إلى الصَّيْدِ (7) .

القول الثاني: أنَّه تَحْرُمُ خِطبَةُ المُحْرِمِ، وهو مَذْهَبُ المالِكِيَّة (8) ، واختيارُ ابنِ حَزْم (9) ، وابنِ تيميَّة (10) ، والصنعانيِّ (11) ، والشِّنْقيطيِّ (12) ، وابنِ باز (13) وابنِ عُثيمين (14) .

الأدلَّة:

أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ

1- عن عُثمانَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعْتُ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم يقول: ((لا يَنْكِحِ الْمُحْرِمُ، وَلَا يُنْكِحْ، وَلا يَخْطُبْ)) (15) .

وجه الدَّلالَة:

أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم نهى عن الجميعِ نهيًا واحدًا ولم يُفَصِّلْ، وموجِبُ النَّهيِ التحريمُ، وليس لنا ما يعارِضُ ذلك مِنْ أثَرٍ ولا نظَرٍ (16)

ثانيًا: عَنْ عبدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّه كان يقول: ((لَا يَنْكِحِ الْمُحْرِمُ، وَلَا يَخْطُبْ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا عَلَى غَيْرِهِ)) (17) .

ثالثًا: أنَّ الخِطبةَ مُقَدِّمةُ النِّكاحِ وسببٌ إليه، كما أنَّ العقدَ سببٌ للوطءِ، والشَّرْعُ قد منع من ذلك كلِّه؛ حسمًا للمادَّةِ (18) .

رابعًا:أنَّ الخِطبةَ كلامٌ في النِّكاحِ وذِكْرٌ له، وربَّما طال فيه الكلامُ، وحصل بها أنواعٌ مِن ذِكْرِ النِّساءِ، والمُحْرِمُ ممنوعٌ من ذلك كلِّه (19) .

خامسًا: أنَّ الخِطْبَةَ توجِبُ تعَلُّقَ القَلبِ بالمخطوبةِ، واستثقالَ الإحرامِ والتعجُّلَ إلى انقضائِه؛ لتحصيلِ مقصودِ الخِطبةِ، كما يقتضي العقدُ تَعلُّقَ القَلْبِ بالمنكوحةِ (20) .

مَسْألةٌ: الشَّهادةُ على عَقْدِ النِّكاحِ

لا تأثيرَ للإحرامِ على الشَّهادةِ على عقْدِ النِّكاحِ، وقد نصَّ على ذلك فُقَهاءُ الشَّافِعِيَّةِ (21) ، والحَنابِلَة (22) ، وإليه ذهب الشِّنْقيطيُّ (23) ، وابنُ عُثيمين (24) .

الدَّليلُ مِنَ السُّنَّةِ

عن عثمانَ بنِ عفَّانَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم قال: ((لا يَنْكِحِ الْمُحْرِمُ، وَلَا يُنْكِحْ، وَلا يَخْطُبْ)) (25) .

وَجْهُ الدَّلالَةِ:

أنَّ الشَّاهِدَ لا يدخُلُ في ذلك؛ فإنَّ عَقدَ النِّكاحِ بالإيجابِ والقَبولِ، والشَّاهِدُ لا صُنْعَ له في ذلك (26) .

الوافي 14-07-2021 04:10 AM

المطلب الأوَّل: حُكْمُ الجِماعِ للمُحْرِمِ في النُّسُكِ
الوطءُ في الفَرْجِ حرامٌ على المُحْرِم، ومُفسِدٌ لنُسُكِه.
الأدِلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتاب
قَولُه تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ[البقرة: 197].
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الرَّفَث: هو الجماعُ عند أكثَرِ العُلماءِ، (1) ، ولم يختَلِفِ العُلَماءُ في قَوْلِ اللهِ عَزَّ وجلَّ: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ[البقرة: 187] أنَّه الجِماعُ، فكذلك هاهنا (2) .
ثانيًا: مِنَ الآثارِ
1- عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّه قال في رجلٍ وقَعَ على امرأتِه، وهو مُحْرِمٌ: ((اقضِيَا نُسُكَكُما، وارْجِعا إلى بَلَدِكما، فإذا كان عامُ قابلٍ فاخْرُجا حاجَّيْنِ، فإذا أحْرَمْتُما فتفَرَّقا، ولا تَلْتَقِيا حتى تَقْضِيا نُسُكَكُما واهْدِيَا هَدْيًا)) (3) .
2- عن عمرِو بنِ شُعَيبٍ، عن أبيه، قال : ((أتى رجلٌ عبد الله بنَ عَمرٍو فسأله عن مُحرِمٍ وقع بامرأتِه؟ فأشار له إلى عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ، فلم يَعرِفْه الرَّجُل، قال شعيبٌ: فذهبتُ معه، فسأله؟ فقال : بطَلَ حَجُّه، قال: فيقعُدُ؟ قال: لا، بل يخرُجُ مع النَّاسِ فيصنَعُ ما يصنعونَ، فإذا أدرَكَه قابِلٌ حَجَّ وأهدى، فرجعا إلى عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو فأخبَرَاه، فأرسَلَنا إلى ابنِ عَبَّاسٍ، قال شعيبٌ: فذهبتُ إلى ابنِ عبَّاسٍ معه، فسأله ؟ فقال له مِثلَ ما قال ابنُ عُمَرَ، فرجع إليه فأخبَرَه، فقال له الرجل: ما تقولُ أنت؟ فقال مثلَ ما قالا)) (4)
وَجْهُ الدَّلالةِ مِن هذه الآثارِ:
أنَّه قولُ طائفةٍ مِنَ الصَّحابة رَضِيَ اللهُ عنهم، ولا يُعْرَفُ لهم مخالِفٌ في عَصرِهم (5) .
ثالثًا: مِنَ الإجماعِ
نقل الإجماعَ على تحريمِ الوَطْءِ حالَ الإحرامِ: ابنُ عَبْدِ البَرِّ (6) ، وابنُ رُشْدٍ (7) ، والنوويُّ (8) .
ونقَلَ الإجماعَ على فساد النُّسُكِ بالوطءِ: ابنُ المُنْذِر (9) ، وابْن حَزْمٍ (10) ،والشِّربيني (11) ، وابنُ مُفْلِحٍ (12) والشنقيطيُّ (13) .
المطلب الثَّاني: وقتُ فَسادِ الحَجِّ بالجماعِ؟
الفرع الأوَّل: الجِماعُ قبل الوقوفِ بِعَرَفةَ
مَن جامَعَ قبل الوقوفِ بعَرَفةَ فَسَدَ حَجُّه.
الدَّليلُ مِنَ الإجماعِ:
نقلَ الإجماعَ على ذلك ابْنُ المُنْذِر (14) ، وابْنُ حَزْمٍ (15) ، وابنُ عَبْدِ البَرِّ (16) ، وابنُ رُشدٍ (17) ، والزيلعيُّ (18) ، والشِّربينيُّ (19) .
الفرع الثَّاني: الجِماعُ بعد الوقوفِ بعَرَفةَ وقَبْلَ التَّحلُّلِ الأوَّلِ
مَن جامَعَ بعد الوقوفِ بعَرَفةَ وقبل التحلُّلِ الأوَّلِ فَسَدَ حَجُّه، وهذا مذهَبُ الجمهورِ: المالِكيَّة في المشهورِ (20) ، والشَّافعيَّة (21) ، والحَنابِلة (22) .
الأدِلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الآثارِ
عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، قال: ((أتى رجلٌ عبد الله بنَ عَمرٍو فسأله عن مُحرِمٍ وقع بامرأتِه؟ فأشار له إلى عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ، فلم يَعرِفْه الرَّجُل، قال شعيبٌ: فذهبتُ معه، فسأله؟ فقال : بطَلَ حَجُّه، قال: فيقعُدُ؟ قال: لا، بل يخرُجُ مع النَّاسِ فيصنَعُ ما يصنعونَ، فإذا أدرَكَه قابِلٌ حَجَّ وأهدى، فرجعا إلى عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو فأخبَرَاه، فأرسَلَنا إلى ابنِ عَبَّاسٍ، قال شعيبٌ: فذهبتُ إلى ابنِ عبَّاسٍ معه، فسأله ؟ فقال له مِثلَ ما قال ابنُ عُمَرَ، فرجع إليه فأخبَرَه، فقال له الرجل: ما تقولُ أنت؟ فقال مثلَ ما قالا)) (23)
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّه قولُ هؤلاءِ الصَّحابةِ، ولم يُفَرِّقوا بين ما قبل الوقوفِ وبَعْدَه، ويدلُّ عليه أنَّهم لم يستفصلوا السَّائِلَ (24) .
ثانيًا: القياسُ على فساد النُّسُكِ بالجماعِ قبل الوقوفِ بعَرَفةَ، والجامِعُ أنَّ كُلًّا منهما وطءٌ صادَفَ إحرامًا تامًّا قبل التحَلُّل (25) .
الفرع الثَّالث: الجِماعُ بعد التَّحَلُّلِ الأَوَّلِ
مَن جامَعَ بعد التحلُّلِ الأَوَّلِ فلا يَفْسُدُ نُسُكُه، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهيَّةِ الأربَعةِ (26) : الحَنَفيَّة (27) ، والمالِكيَّة (28) ، والشَّافعيَّة (29) ، والحَنابِلة (30) ، وبه قالَتْ طائفةٌ مِنَ السَّلَفِ (31) .
الأدِلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
عمومُ حديثِ عُروةَ بْنِ مُضَرِّسٍ الطَّائيِّ، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَنْ أدرَكَ معنا هذه الصَّلاةَ، وأتى عرفاتٍ قبل ذلك ليلًا أو نهارًا؛ فقد تمَّ حجُّه وقضى تَفَثَه)) (32) .
ثانيًا: مِنَ الآثارِ
عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ رجلًا أصاب مِن أهْلِه قبل أن يطوفَ بالبيتِ يومَ النَّحْرِ، فقال: ((ينحرانِ جَزورًا بينهما، وليس عليهما الحَجُّ مِن قابلٍ)) (33) .
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّه قَوْلُ ابنِ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عنهما، ولا يُعْرَفُ له مخالِفٌ مِنَ الصَّحابةِ (34) .
ثالثًا: أنَّ إحرامَه بعد تحلُّلِه الأوَّلِ غيرُ تامٍّ، وإنَّما عليه بقيَّةٌ من إحرامٍ، هو حرمةُ الوطءِ، وهذا لا يجوزُ أن يُفْسِدَ ما مضى مِن عبادَتِه (35) .
رابعًا: لأنَّ الحجَّ عبادةٌ لها تحلُّلانِ، فوجودُ المُفْسِد بعد تحلُّلِها الأوَّلِ لا يُفْسِدُهما كما بعد التَّسليمةِ الأولى في الصَّلاةِ (36) .
خامسًا: لأنَّه وَطِئَ بعد التحَلُّلِ الأَوَّل، فلم يَفْسُد حَجُّه، كما لو وَطِئَ بعد التحلُّلِ الثَّاني (37) .
المطلب الثَّالث: متى يُفْسِدُ الجماعُ نُسُكَ العُمْرَةِ؟
الفرع الأوَّل: الجماعُ قبل الطَّوافِ
إذا جامَعَ المعتَمِرُ قبل الطَّوافِ؛ فإنَّ العُمرةَ تَفْسُد.
الدَّليلُ مِنَ الإجماعِ:
نقلَ الإجماعَ على ذلك ابْنُ المُنْذِر (38) ، والشنقيطيُّ (39) .
الفرع الثَّاني: الجِماعُ قبل السَّعْيِ
إذا جامع المعتَمِرُ قبل السَّعيِ؛ فإنَّ العُمرةَ تَفْسُد، وهو مَذهَبُ الجُمْهورِ: المالِكيَّة (40) ، والشَّافعيَّة (41) ، والحَنابِلةِ (42) ، وبه قال أبو ثَوْرٍ (43) .
وذلك للآتي:
أوَّلًا: قياسًا على الحجِّ؛ لأنَّ العُمرةَ أحَدُ النُّسُكينِ، فيُفْسِدُها الوطءُ قبل الفَراغ مِنَ السَّعيِ؛ كالحَجِّ قبل التحلُّلِ الأوَّلِ (44) .
ثانيًا: لأنَّه وطءٌ صادف إحرامًا تامًّا فأفسَدَه (45) .
الفرع الثَّالث: الجِماعُ بعد السَّعيِ وقَبْلَ الحَلْقِ
إذا جامع المعتَمِرُ بعد السَّعيِ وقبل أن يحلِقَ، فلا تَفْسُد عُمْرَتُه، وعليه هَدْيٌ، وهذا مَذهَبُ الجُمْهورِ مِنَ الحَنَفيَّة (46) ، والمالِكيَّة (47) ، والحَنابِلةِ (48)
وذلك للآتي:
أوَّلًا: لأنَّ الجماعَ حَصَل بَعْدَ أَداءِ الرُّكْنِ الذي به تتِمُّ أركانُ العُمرةِ (49) .
ثانيًا: قياسًا على الوَطءِ في الحجِّ بعد التحلُّلِ الأوَّلِ (50) .
ثالثًا: عليه هَدْيٌ لحصولِ الجماعِ في الإحرامِ (51) .
المطلب الثَّالث: ما يترتَّبُ على الجماعِ في النُّسُكِ
يترتَّبُ على الجماعِ في الحَجِّ خمسةُ أشياءَ:
أوَّلًا: الإثْمُ.
ثانيًا: فسادُ النُّسُك.
وهذان الأمرانِ سبَقَ بحثُهما.
ثالثًا: وجوبُ المُضِيِّ في فاسِدِه
وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهيَّةِ الأربَعةِ مِنَ الحَنَفيَّة (52) ، والمالِكيَّة (53) ، والشَّافعيَّة (54) ، والحَنابِلة (55) ، وعلى ذلك أكثرُ العُلَماءِ (56) ، وهو قَوْلُ طائِفةٍ مِنَ السَّلَفِ (57) .
الأدِلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتاب
قَولُه تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ[البقرة: 196].
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّه أمَرَ بإتمامِ الحجِّ والعُمْرة، وأطلق، ولم يُفرِّقْ بين صَحيحِها وفاسِدِها (58) .
ثانيًا: أفتى بذلك جمعٌ مِنَ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم، ولا يُعْرَفُ لهم مخالِفٌ (59) .
رابعًا: وجوبُ القضاءِ
الأدِلَّة:
أوَّلًا: أفتى بذلك جمعٌ مِنَ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم، ولا يُعْرَفُ لهم مخالِفٌ (60) .
ثانيًا: مِنَ الإجماعِ
نقل الإجماعَ على وجوبِ القَضاءِ ابنُ المُنْذِر (61) ، والنوويُّ (62) ، والشِّربينيُّ (63) .
ثالثًا: أنَّ النُّسُكَ يَلْزَمُ بالشُّروعِ فيه، فصار فَرْضًا بخلافِ باقي العباداتِ (64) .
خامسًا: الفِدْيةُ
تجب الفِدْيةُ على من أفسَدَ النُّسُكَ بالجماعِ (65) ، والواجِبُ على من فعل ذلك بَدَنةٌ، وهو مَذهَبُ الجُمْهورِ: المالِكيَّة (66) ، والشَّافعيَّة (67) ، والحَنابِلة (68) ، وبه قالَتْ طائفةٌ مِنَ السَّلَفِ (69) .
الأدِلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الآثارِ
عن عِكرمةَ: ((أنَّ رَجُلًا قال لابنِ عبَّاسٍ: أصبْتُ أهلي، فقال ابنُ عبَّاس: أمَّا حَجُّكُما هذا فقد بطلَ، فحُجَّا عامًا قابِلًا، ثم أهِلَّا مِنْ حيث أهْلَلْتُما، وحيث وَقَعْتَ عليها ففارِقْها، فلا تراك ولا تراها حتى تَرْمِيا الجَمْرَة، وأهْدِ ناقةً، ولتُهْدِ ناقةً)) (70) . وعنه أيضًا: ((إذا جامَعَ فعلى كلِّ واحدٍ منهما بَدَنةٌ)) (71) .
ثانيًا: أنَّه وطْءٌ صادف إحرامًا تامًّا، فأوجب البَدَنةَ (72) .
ثالثًا: أنَّ ما يُفْسِدُ الحجَّ، الجنايةُ به أعظمُ؛ فكفَّارته يجب أن تكونَ أغلَظَ (73) .
مسألةٌ: الفِدْيةُ في العُمْرةِ:
تجب الفِدْيةُ على من أفسَدَ نُسُكَ العُمْرةِ بالجِماعِ (74) ، والواجِبُ في ذلك شاةٌ، وهو مذهبُ الحَنَفيَّة (75) ، والحَنابِلة (76) ، واختاره ابنُ باز (77) وابنُ عُثيمين (78) .
وذلك للآتي:
أوَّلًا: أنَّ العُمْرةَ أقلُّ رُتبةً مِنَ الحجِّ، فخفَّتْ جِنايَتُها، فوجبَتْ شاةٌ (79) .
ثانيًا: أنَّها عبادةٌ لا وقوفَ فيها، فلم يجِبْ فيها بَدَنةٌ، كما لو قَرَنَها بالحجِّ (80) .
مسألةٌ:
يَفْسُدُ نُسُكُ المرأةِ بالجماعِ مُطْلقًا (81) ، فإن كانَتْ مطاوِعةً فعليها بَدَنةٌ كالرَّجُلِ (82) ، فإن كانت مُكْرَهةً، فإنَّه لا يجِبُ عليها هَدْيٌ، وهذا مذهَبُ المالِكيَّة (83) ، والحَنابِلة (84) ، وبه قالَتْ طائفةٌ مِنَ السَّلَفِ (85) .
أدِلَّة وُجوبِ البَدَنةِ على المرأةِ إذا كانت مُطاوِعةً
أوَّلًا: مِنَ الآثارِ
عن عِكْرَمةَ مولى ابنِ عبَّاسٍ: ((أنَّ رَجُلًا وامرأتَه من قريشٍ لَقِيَا ابنَ عبَّاسٍ بطريقِ المدينةِ, فقال: أصبْتُ أهلي, فقال ابنُ عبَّاسٍ: أمَّا حَجُّكُما هذا فقد بَطَلَ، فحُجَّا عامًا قابِلًا، ثم أهِلَّا مِنْ حيث أهْلَلْتُما، وحيث وَقَعْتَ عليها ففارِقْها، فلا تراك ولا تراها حتى تَرْمِيا الجَمْرَة، وأهْدِ ناقةً، ولتُهْدِ ناقةً)) (86) . وعنه أيضًا: ((إذا جامَعَ فعلى كلِّ واحدٍ منهما بَدَنةٌ)) (87) .
ثانيًا: أنَّها أحدُ المُتَجامِعَينِ من غيرِ إكراهٍ، فَلَزِمَتْها بدنةٌ كالرَّجُلِ (88) .
ثالثًا: أنَّ الأصلَ استواءُ الرِّجالِ والنِّساءِ في الأحكامِ إلَّا بدليلٍ (89) .
ب- أدِلَّة سُقوطِ الهَدْيِ عنها إذا كانت مُكْرَهةً
أوَّلًا: مِنَ الكِتاب
قَولُه تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَـكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ[النحل: 106].
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الكُفرَ إذا كان يَسْقُطُ مُوجِبُه بالإكراهِ، فما دُونَه مِن بابِ أَوْلى (90) .
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ وضع عنْ أُمَّتي الخطَأَ والنِّسيانَ وما استُكْرِهوا عليه)) (91) .
ثالثًا: أنَّه جِماعٌ يوجِبُ الكفَّارةَ، فلم تجِبْ به حالَ الإكراهِ أكثَرُ مِن كفَّارةٍ واحدةٍ، كما في الصِّيامِ (92) .

الوافي 14-07-2021 04:11 AM

المطلب الأوَّل: حُكْمُ مباشَرةِ النِّساءِ في النُّسُكِ
تَحْرُمُ مُباشَرةُ النِّساءِ (1) في النُّسُكِ (2) ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفقهية الأربَعةِ (3) : الحَنَفيَّة (4) ، والمالِكيَّة (5) ، والشَّافعيَّة (6) ، والحَنابِلة (7) .
الأدِلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتاب
قَولُه تعالى: فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ[البقرة: 197].
والرَّفَثُ فَسَّرَه غيرُ واحدٍ مِنَ السَّلَفِ، وبعضُ أهلِ العِلمِ بالجِماعِ ومُقَدِّماتِه (8)
ثانيًا: أنَّه إذا حَرُم عليه عَقْدُ النِّكاحِ، فَلَأنْ تَحْرُمَ المباشرةُ- وهي أدعى إلى الوَطْءِ- أَوْلَى (9) .
المطلب الثَّاني: حُكْمُ المباشَرةِ بدونِ وَطْءٍ
مُباشَرةُ النِّساءِ مِن غيرِ وطءٍ لا تُفْسِدُ النُّسُكَ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّة (10) ، والمالِكيَّة (11) ، والشَّافعيَّة (12) ، والحَنابِلة (13) .
وذلك للآتي:
أوَّلًا: أنَّ فسادَ النُّسُكِ تعلَّقَ بالجماعِ، ودواعي الجماعِ ليست مثلَ الجِماعِ، فلا تلحَقُ به (14) .
ثانيًا: أنَّه استمتاعٌ مَحْضٌ، فلم يُفْسِدِ الحَجَّ، كالطِّيبِ (15) .
المطلب الثَّالث: فِدْيةُ مَن باشَرَ فلم يُنْزِلْ
مَن باشَرَ ولم يُنْزِلْ فعليه دمٌ، أو بَدَلُه مِنَ الإطعامِ أو الصِّيامِ، وهذا مذهَبُ الشَّافعيَّة (16) ، والحَنابِلة (17) ، وقالت به طائفةٌ مِنَ السَّلَفِ (18) وهو اختيارُ ابنِ عُثيمين (19) .
وذلك للآتي:
أوَّلًا: أنَّه استمتاعٌ محْضٌ، عَرِيَ عن الإنزالِ، فوَجَبَتْ فيه الفِدْيةُ، كالطِّيبِ (20) .
ثانيًا: أنَّه فِعلٌ مُحَرَّمٌ في الإحرامِ، فوجبت فيه الكفَّارةُ، كالجماعِ (21) .
المطلب الرابع: حُكْمُ مَن باشَرَ فأنزَلَ
مَنْ باشَرَ فأنزَلَ لم يَفْسُدْ نُسُكُه، وعليه فِدْيةُ الأذى: دمٌ، أو بَدَلُه مِنَ الإطعامِ أو الصِّيامِ، وهو مذهَبُ الحَنَفيَّة (22) ، والشَّافعيَّة (23) ، واختاره ابنُ عُثيمين (24) .
عَدَمُ فَسادِ النُّسُكِ للآتي:
أوَّلًا: أنَّه إنزالٌ بغيِر وَطءٍ، فلم يَفْسُدْ به الحَجُّ، كالنَّظَرِ (25) .
ثانيًا: لأنَّه لا نصَّ فيه ولا إجماعَ، ولا يصِحُّ قياسُه على المنصوصِ عليه؛ لأنَّ الوَطْءَ في الفَرْجِ يجب بنَوْعِه الحَدُّ، ولا يفتَرِقُ الحالُ فيه بين الإنزالِ وعَدَمِه، بخلافِ المباشرة (26) .
ثالثًا: لأنَّه استمتاعٌ لا يجِبُ بنوعه الحَدُّ، فلم يُفْسِدِ الحجَّ، كما لو لم يُنْزِلْ (27) .
وجوبُ فِدْيةِ الأذى (الدَّمُ، أو الإطعامُ، أو الصِّيامُ) على مَن باشر فأنزَلَ؛ للآتي:
أوَّلًا: أنَّه استمتاعٌ لا يُفْسِدُ النُّسُكَ، فكانت كفَّارتُه فِدْيةَ الأذى، كالطِّيبِ (28) .
ثانيًا: أنَّه فِعْلٌ مُحَرَّمٌ في الإحرامِ، فوجبت فيه الكفَّارة، كالجماعِ (29) .

الوافي 14-07-2021 04:12 AM

المبحث الأوَّل: تدارُكُ الواجباتِ متى ما أمكَنَ

تَرْكُ الواجباتِ لا يَسْقُطُ بالنِّسيانِ والجهلِ والإكراهِ متى أمكَنَ تدارُكُه (1) .

الأدِلَّة:

أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ

1- عن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال نبيُّ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن نَسِيَ صلاةً أو نام عنها فكَفَّارتُها أن يُصَلِّيَها إذا ذَكَرَها)) (2) .

وَجْهُ الدَّلالةِ:

أنَّه لم يُسْقِطْ عنه الصَّلاةَ مع النِّسيانِ، فدلَّ على أنَّ تَرْكَ الواجباتِ لا يَسْقُطُ بالنِّسيانِ، متى أمكَنَ تَدارُكُه (3) .

2- عن أبي هريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال للرَّجُلِ المُسيءِ صَلاتَه: ((ارجِعْ فَصَلِّ؛ فإنِّكَ لم تُصَلِّ)) (4) .

وَجْهُ الدَّلالةِ:

أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يُسْقِطِ الصَّلاةَ الحاضرةَ بالجهلِ، وإنَّما أمَرَه بالإعادةِ مع أنَّه جاهِلٌ؛ لأنَّه تَرَك مأمورًا (5) .

ثانيًا: أنَّه تَرَك مأمورًا، والمأموراتُ أمورٌ إيجابيَّة، يُمكِنُ تدارُكُها بفِعْلِها، بخلاف المنهيَّاتِ، فإنَّها مَضَتْ، ولا يمكِنُ تَدارُكُها، لكنْ إذا كان في أثناءِ المنهيِّ فيجِبُ التَّدارُكُ بقَطْعِه (6) .

ثالثًا: أنَّ تارِكَ المأمورِ جاهلًا أو ناسيًا غيرُ مؤاخَذٍ بالتَّرْكِ، لكنْ عَدَمُ فِعْلِه إيَّاه يقتضي إلزامَه به متى زال العُذْرُ؛ إبراءً لِذِمَّتِه (7) .

الوافي 14-07-2021 04:13 AM

المبحث الثَّاني: فِدْيةُ تَرْكِ الواجِبِ

يجِبُ بِتَرْكِ الواجِبِ دَمٌ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّة (1) ، والمالِكيَّة (2) ، والشَّافعيَّة (3) ، والحَنابِلة (4) .

الأدِلَّة:

أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ

عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّه قال: ((مَن نَسِيَ مِنْ نُسُكِه شيئًا، أو تَرَكَه فلْيُهْرِقْ دمًا)) (5) .

وَجْهُ الدَّلالةِ:

أنَّ مِثْلَه لا يُقالُ بالرأيِ؛ فله حُكْمُ الرَّفْعِ، ولا مخالِفَ له مِنَ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم، وعليه انعقَدَتْ فتاوى التَّابعينَ، وعامَّةِ الأُمَّةِ (6) .

الوافي 14-07-2021 04:14 AM

المبحث الأوَّل: ما يجِبُ على المُحْرِم تَوَقِّيه
يجب على المُحْرِمِ أن يتَوَقَّى ما يلي:
أوَّلًا: الفُحْشُ مِنَ القَوْلِ والفعْلِ (1) ، وذلك منهيٌّ عنه في الإحرامِ وغيرِ الإحرامِ، إلَّا أنَّ الحَظْرَ في الإحرامِ أشَدُّ؛ لحُرمةِ العبادةِ.
ثانيًا: الفُسُوقُ: وهو جميعُ المعاصي، ومنها محظوراتُ الإحرامِ (2) .
ثالثًا: الجِدالُ في الحَجِّ: وهو المخاصَمةُ في الباطِلِ، لاسيما مع الرُّفقاءِ والخَدَمِ، أو الجدلُ فيما لا فائدةَ فيه؛ لأنَّ ذلك يُثيرُ الشَّرَّ ويوقِعُ العداوةَ، ويَشْغَلُ عن ذكْرِ اللهِ، أمَّا الجدالُ بالتي هي أحسَنُ لإظهارِ الحَقِّ ورَدِّ الباطِلِ؛ فلا بأسَ به (3)
الأدِلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتاب
1- قولُه تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ[البقرة: 197].
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّ هذا نهيٌ بصيغةِ النَّفيِ، وهو آكَدُ ما يكون مِنَ النَّهيِ، كأنه قيل: فلا يكونَنَّ رفَثٌ ولا فُسوقٌ ولا جِدالٌ في الحَجِّ (4) .
2- قولُه تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ[الحج: 25] (5) .
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سمعتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول: ((مَن حَجَّ للهِ فلم يَرْفُثْ، ولم يفْسُقْ، رَجَعَ كيومَ وَلَدَتْه أمُّه)) (6)
2- عن أبي هريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه: أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((العُمْرةُ إلى العُمْرةِ كفَّارةٌ لِمَا بينهما، والحجُّ المبرورُ ليس له جَزَاءٌ إلَّا الجنَّةُ)) (7) .
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّ مِن جُملةِ ما فُسِّرَ به الحجُّ المبرورُ: أنَّه الحجُّ الذي لم يخالِطْه شَيءٌ مِنَ المَأثَمِ (8) .
المبحث الثاني: ما يباح للمحرم
المطلب الأول: التِّجارةُ والصِّناعةُ
للمُحْرِمِ أن يتَّجِرَ ويَصْنَعَ في الحَجِّ (9) .
الأدِلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتاب
1- قولُه تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ (10) [البقرة: 198].
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّها نزلتْ في التِّجارةِ في الحجِّ، فعَنِ ابْنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: (كانت عُكاظٌ، ومَجَنَّةُ، وذو المَجازِ أسواقًا في الجاهليَّة، فتأَثَّموا أن يتَّجِروا في المواسِمِ، فنزلت: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ[البقرة: 198]. في مواسِمِ الحجِّ) (11) .
1- قولُه تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِر... لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ[الحج: 27-28].
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنه لم يُخَصِّصْ شيئًا مِنَ المنافِعِ دون غيرِها؛ فهو عامٌّ في جميعِها مِنْ منافِعِ الدُّنيا والآخِرةِ (12) .
2- قولُه تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا[البقرة: 275].
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنه لم يُخَصِّصْ منه حالَ الحَجِّ، فيبقى البيعُ على أصلِ الإباحةِ (13) .
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
عن أبى أُمامَةَ التَّيمِيِّ قال: ((كنتُ رجلًا أَكْرِي في هذا الوَجهِ، وإنَّ ناسًا يقولون: ليس لك حَجٌّ، فقال ابنُ عُمَرَ: أليسَ يُحْرِمُ ويُلَبِّي ويطوفُ بالبيتِ، ويُفْضي من عرفاتٍ، ويرمي الجِمارَ؟ قلتُ: بلى، قال: فإنَّ لك حجًّا، جاء رجلٌ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فسأَلَه عمَّا سألْتَني عنه، فسَكَت رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فلم يُجِبْه حتى نزلت هذه الآيةُ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة: 198]، فأرسل إليه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقرأ عليه هذه الآيةَ، وقال: لك حَجٌّ)) (14) .
ثالثًا: مِنَ الإجماعِ
نقل الإجماعَ على جوازِ ذلك ابنُ قُدامة (15) ، والنوويُّ (16) ، والشنقيطيُّ (17) ، والجصَّاصُ، ووَصَفَ القولَ بِسِواه بالشُّذُوذِ (18) .
المطلب الثاني: الحِجامةُ
تجوزُ الحِجامةُ للمُحرِم إذا كان له عُذرٌ في ذلك، ولا شيءَ عليه إذا لم يَحلِقْ شَعرًا.
الدليل من الإجماع:
نقلَ الإجماعَ على ذلك: ابنُ عبدِ البَر (19) ، والبَغَويُّ (20) ، والقُرْطُبيُّ (21) ، والنَّوويُّ (22) ، والصَّنعانيُّ (23) .
المطلب الثالث: التَّداوي بما ليس بطِيب
يَجوزُ للمُحرِمِ مُباشرةُ ما ليسَ بطِيبٍ والتَّداوي به.
الدليل من الإجماع:
نقلَ الإجماعَ على ذلك: ابن عبد البر (24) .
المطلب الرابع: السِّواكُ
يَجوزُ السِّواكُ للمُحرِمِ.
الدليل من الإجماع:
نقلَ الإجماعَ على ذلك: ابن المنذر (25) ، والحطاب (26) .
المطلب الخامس: ذَبحُ بَهيمةِ الأنعامِ ونَحْوِها
يجوزُ للمُحْرِم ذَبحُ بهيمةِ الأنعامِ والدَّجاجِ ونَحْوِها.
الدليل من الإجماع:
نقلَ الإجماعَ على ذلك: ابنُ حزمٍ (27) ، وابنُ قُدامة (28) .
المبحث الثَّالث: آدابُ دُخولِ مكَّةَ والمسجِدِ الحَرامِ
المطلب الأوَّل: دخولُ مكَّةَ مِن أعلاها والخُروجُ مِن أسفَلِها
يُستحَبُّ للمُحْرمِ أن يدخُلَ مكَّةَ مِن أعلاها (29) ، ويخرُجَ مِن أسفَلِها (30) ، إن تيسَّرَ له ذلك (31) وإلَّا فله أن يدخُلَ من أيِّ طريقٍ شاء (32) وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّة (33) ، والمالِكيَّة (34) ، والشَّافعيَّة (35) ، والحَنابِلة (36) .
الدَّليلُ مِنَ السُّنَّةِ:
عن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يدخُلُ مِنَ الثَّنِيَّةِ العُلْيا، ويخرُجُ مِنَ الثَّنِيَّةِ السُّفْلى)) (37) .
المطلب الثَّاني: الغُسْلُ قبلَ دُخولِ مَكَّة
يُستحَبُّ للمُحْرمِ أن يغتَسِلَ قبل دُخولِه إلى مكَّةَ، وذلك عند ذي طُوًى، أو غيرِه من مداخِلِ مكَّةَ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّة (38) ، والمالِكيَّة (39) ، والشَّافعيَّة (40) ، والحَنابِلة (41) .
الدَّليلُ مِنَ السُّنَّةِ:
عن نافعٍ قال: ((كان ابنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما إذا دخل أدنى الحَرَمِ أمسَكَ عن التَّلبيةِ، ثُمَّ يبيتُ بذي طُوًى، ثم يصلِّي به الصُّبحَ، ويغتَسِل ويُحَدِّثُ أنَّ نبيَّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يفعَلُ ذلك)) (42) .
المطلب الثَّالث: دخولُ مكَّةَ نهارًا
يُستحَبُّ للمُحْرمِ أن يدخُلَ مكَّةَ نهارًا، وهو مَذهَبُ الجُمْهورِ: المالِكيَّة (43) ، والشَّافعيَّة (44) ، والحَنابِلة (45) ، وقولُ طائفةٍ مِنَ السَّلَفِ (46) .
الدَّليل مِنَ السُّنَّةِ:
عَنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((بات النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بذي طُوًى حتى أصبَحَ، ثم دخلَ مكَّةَ، وكان ابنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما يفعَلُه)) (47) .
المطلب الرابع: أن يكون أوَّلَ ما يشتَغِلُ به عند دُخولِه الطَّوافُ بالبَيتِ
يُستحَبُّ للمُحْرمِ عند دخولِه إلى مكَّة أن يبدأ بالطَّواف وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّة (48) ، والمالِكيَّة (49) ، والشَّافعيَّة (50) ، والحَنابِلة (51) .
الأدِلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
عن عائشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((أوَّلُ شيءٍ بدأَ به حين قَدِمَ مكَّةَ أنَّه توضَّأَ، ثم طاف بالبيتِ)) (52) .
ثانيًا: مِنَ الآثار
عن عُروةَ بنِ الزُّبَيرِ قال: ((حَجَّ أبو بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، فكان أوَّلَ شيءٍ بدأ به الطَّوافُ بالبيت، ثم لم تكُنْ عُمْرةً، ثمَّ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنه مثل ذلك، ثم حَجَّ عُثمانُ رَضِيَ اللهُ عنه، فرأيتُه أوَّلُ شيءٍ بدأَ به الطَّوافُ بالبيتِ، ثم لم تكنْ عُمْرةً، ثمَّ معاويةُ، وعبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ، ثم حجَجْتُ مع أبي الزُّبيرِ بنِ العوَّامِ، فكان أولَّ شيءٍ بدأ به الطَّوافُ بالبيتِ، ثم لم تكن عُمْرةً، ثم رأيتُ المهاجرينَ والأنصارَ يفعلون ذلك، ثمَّ لم تكن عُمْرةً، ثم آخِرُ مَن رأيتُ فَعَلَ ذلك ابنُ عُمَرَ، ثم لم يَنْقُضْها عُمْرةً، وهذا ابنُ عُمَرَ عندهم فلا يسألونَه، ولا أحَدَ مِمَّن مضى، ما كانوا يبدَؤونَ بشيءٍ حتى يضعوا أقدامَهم مِنَ الطَّوافِ بالبيتِ، ثم لا يَحِلُّون، وقد رأيتُ أمِّي وخالتي حين تَقْدَمان، لا تَبْتَدِئان بشيءٍ أوَّلَ مِنَ البيت؛ تطوفانِ به، ثمَّ إنَّهما لا تَحِلَّان)) (53) .
المطلب الخامس: ما يُقالُ عند دخولِ المسجِدِ الحرامِ
يُسَنُّ أن يدعوَ عندَ دُخولِ المسجدِ الحرامِ، كغيرِه مِنَ المساجِدِ، فيقول: أعوذُ باللهِ العظيمِ، وبوجْهِه الكريمِ، وبِسلطانِه القديمِ، مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيم، اللهُمَّ افتَحْ لي أبوابَ رَحْمَتِك، وعند الخروجِ يقول: اللهمَّ إني أسألُكَ مِن فَضْلِك.
الأدِلَّة مِنَ السُّنَّةِ:
1- عن أبي حُمَيد أو أبي أُسَيدٍ السَّاعديِّ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إذا دخل أحدُكم المسجِدَ فلْيَقُل: اللهمَّ افتَحْ لي أبوابَ رَحْمَتِك، وإذا خرج فلْيَقُل: اللهُمَّ إنِّي أسألُك مِن فَضْلِك)) (54) .
2- عن عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يقول إذا دخل المسجد: ((أعوذُ باللهِ العظيمِ، وبوَجْهِه الكريمِ، وسُلطانِه القديمِ، مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيمِ)) (55) .
المطلب السادس: تقديمُ الرِّجْلِ اليُمْنى
يُسَنُّ أن يُقَدِّمَ رِجْلَه اليُمْنى عند دُخولِ المسجِدِ الحرامِ؛ كغيرِه مِنَ المساجد.
الدَّليل مِنَ السُّنَّةِ:
عمومُ ما جاء عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها؛ حيث قالت: ((كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُحِبُّ التيمُّنَ ما استطاعَ، في شأنِه كُلِّه: في طُهُورِه، وتَرَجُّلِه، وتَنَعُّلِه)) (56) .

الوافي 14-07-2021 04:15 AM

المبحث الأوَّل: تعريفُ الطَّوافِ
الطَّوافُ لغةً: دورانُ الشَّيءِ على الشَّيءِ (1) .
الطَّوافُ اصطلاحًا: هو التعبُّدُ لله عزَّ وجلَّ، بالدَّوَرانِ حولَ الكعبةِ على صفةٍ مخصوصةٍ (2) .
المبحث الثَّاني: مشروعيَّة الطَّوافِ
الطَّوافُ بالبيتِ عبادةٌ مَشْروعةٌ.
الأدِلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتاب
1- قولُه تعالى: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ[البقرة: 125].
2- قولُه تعالى: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ[الحج: 26].
3- قولُه تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ[الحج: 29].
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- حديثُ جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، الطَّويلُ، في صِفَةِ حَجِّ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((حتَّى إذا أتَيْنا البيتَ معه استلَمَ الرُّكْنَ، فرَمَلَ ثلاثًا، ومشى أربعًا...)) الحديث (3) .
2- عَنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان إذا طاف في الحَجِّ أو العُمْرةِ أوَّلَ ما يَقْدَمُ سعى ثلاثةَ أطوافٍ، ومشى أربعةً، ثم سجَدَ سجدتينِ، ثم يطوفُ بين الصَّفا والمروةِ)) (4) .
3- عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((أوَّلُ شيءٍ بدأ به حين قَدِمَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه توضَّأَ، ثم طاف)) (5) .
المبحث الثَّالث: فَضْلُ الطَّوافِ
عَنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن طاف بهذا البيتِ أُسْبوعًا فأحصاه، كان كعِتْقِ رقبةٍ؛ لا يضَعُ قَدَمًا، ولا يرفَعُ أخرى، إلَّا حَطَّ اللهُ عنه بها خطيئةً، وكَتَبَ له بها حسنةً)) (6) .
المبحث الرابع: مِن حِكَمِ مَشروعيَّة الطَّوافِ
مِن حِكَم التقرُّبِ إلى اللهِ بعبادةِ الطَّوافِ؛ إقامةُ ذِكرِ الله تبارك وتعالى؛ فما يقومُ بقَلْبِ الطَّائف مِن تعظيمِ الله تعالى يجعَلُه ذاكرًا لله تعالى، وتكون حرَكاتُه ومَشْيُه واستلامُه للحَجَرِ والرُّكنِ اليمانيِّ، والإشارةُ إلى الحَجَر- يكونُ كلُّ ذلك ذِكرًا لله تعالى؛ لأنَّها عباداتٌ، وكلُّ العبادات ذِكرٌ لله تعالى بالمعنى العامِّ، فضلًا عمَّا ينطِقُ به بلسانه مِنَ التكبيرِ والذِّكرِ والدُّعاءِ؛ فهو ذِكرٌ للهِ تعالى (7) .

الوافي 14-07-2021 04:16 AM

المبحث الأوَّل: صِفَةُ الطَّوافِ
صِفةُ الطَّوافِ بالبيت هي: أن يبتدِئَ طوافَه مِنَ الرُّكْنِ الذي فيه الحَجَرُ الأَسْوَدُ، فيستقْبِلَه، ويستَلِمَه، ويُقَبِّلَه إن لم يؤذِ النَّاس بالمزاحمةِ، فيحاذيَ بجميعِ بَدَنِه جميعَ الحَجَرِ، ثم يبتدئَ طوافَه جاعلًا يسارَه إلى جهةِ البَيتِ، ثم يمشِيَ طائفًا بالبيتِ، ثمَّ يمُرَّ وراءَ الحِجْر، ويدورَ بالبيتِ، فيمُرَّ على الرُّكْنِ اليمانيِّ، ثم ينتهي إلى ركُنِ الحَجَرِ الأسودِ، وهو المحلُّ الذي بدأ منه طوافَه، فتَتِمُّ له بهذا طوفةٌ واحدةٌ، ثم يفعَل كذلك، حتى يُتَمِّمَ سبعًا (1) .

الوافي 14-07-2021 04:17 AM

المطلب الأوَّل: النِّيَّة
يُشْتَرَطُ نيَّةُ أصْلِ الطَّوافِ، وهذا مَذهَبُ الجُمْهورِ (1) : الحَنَفيَّة (2) ، والمالِكيَّة (3) ، والحَنابِلة (4) .
الأدِلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عن عُمَرَ بنِ الخطابِ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ)) (5) .
2- عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((الطَّوافُ حَولَ البيتِ مِثلُ الصَّلاةِ، إلَّا أنَّكم تتكلَّمونَ فيه، فمن تكلَّمَ فيه فلا يتكَلَّمنَّ إلَّا بخيرٍ)) (6)
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سَمَّى الطَّوافَ صلاةً، والصَّلاةُ لا تَصِحُّ إلا بالنيَّة اتفاقًا (7) .
ثانيًا: الطَّوافُ عبادةٌ مقصودةٌ؛ ولهذا يُتَنَفَّل به، فلا بدَّ مِنِ اشتراطِ النيَّةِ فيه (8) .
مسألةٌ: هل يُشتَرَطُ تعيينُ نوعِ الطَّوافِ إذا كان في نُسُكٍ مِن حَجٍّ أو عُمْرة؟
لا يُشتَرَط تعيينُ نوعِ الطَّواف إذا كان في نُسُكٍ مِنْ حجٍّ أو عُمْرة, فلو طاف ناسيًا أو ساهيًا عن نوعِ الطَّواف أجزأه عن الطَّوافِ المشروعِ في وَقْتِه، ما دام أنَّه قد نوى النُّسُكَ الذي هو فيه: العُمْرةَ أو الحَجَّ، وهذا مَذهَبُ الجُمْهورِ مِنَ الحَنَفيَّة (9) , والمالِكيَّة (10) ، والشَّافعيَّة في الأصَحِّ (11) .
الأدِلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- أنَّه ثبت عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه أمر أصحابَه في حجَّةِ الوداعِ بعدما دخلوا معه وطافوا وسَعَوْا أن يَفْسَخُوا حَجَّهم ويَجْعَلوه عُمْرةً، وكان منهم القارِنُ والمُفْرِدُ، وإنَّما كان طوافُهم عند قُدومِهم طوافَ القُدومِ، وليس بفَرْضٍ، وقد أمَرَهم أن يَجْعَلوه طوافَ عُمْرةٍ، وهو فَرْضٌ (12) .
2- أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يكُنْ يُعْلِنُ لأصحابِه، أو يأمُرُهم بإعلامِ الطَّائفينَ بأنَّ هذا طوافٌ للقُدوم، وذلك طوافٌ للإفاضةِ، بل كان يؤدِّي المناسِكَ، ويقول: ((لِتَأْخُذوا مناسِكَكم)) (13) ، ولا شَكَّ أن كثيرًا ممن حَجَّ معه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يكن مستحْضِرًا أنَّ الطَّوافَ بعد الوقوفِ بعَرَفةَ، هو طوافُ الزِّيارة، وهو الطَّوافُ الرُّكْن، وإنَّما كانوا يُتابِعون النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في مناسكِه (14) .
ثانيًا: أنَّ نِيَّةَ النُّسُك تَشْمَلُ أعمالَ المناسِك كُلَّها بما فيها الطَّوافُ بأنواعِه، فلا يُحتاجُ إلى نيَّةٍ، كما أنَّ الصَّلاةَ تشمَلُ جميعَ أفعالِها، ولا يُحتاجُ إلى النيَّةِ في ركوعٍ ولا غيرِه (15) .
ثالثًا: أنَّ أركانَ الحجِّ والعُمْرةِ لا تحتاجُ إلى تعيينِ النيَّةِ، كالوقوفِ بعَرَفةَ، والإحرامِ، والسَّعْيِ، والطَّوافُ رُكْنٌ في النُّسُكِ بالإجماع، فلا يَفْتَقِر إلى تعيينِ النيَّة (16) .
رابعًا: أنَّ نِيَّةَ الطَّواف في وقته يقعُ بها عن المشروعِ في ذلك الوقتِ دون الحاجةِ إلى تعيينِ النيَّةِ، فإنَّ خُصوصَ ذلك الوقتِ إنَّما يستحِقُّ خصوصَ ذلك الطَّوافِ بسبب أنَّه في إحرامِ عبادةٍ اقتضت وقوعَه في ذلك الوقتِ، فلا يُشرَع غيرُه (17) .
خامسًا: أنَّ القولَ باشتراطِ تعيينِ النيَّة فيه حرجٌ كبيرٌ؛ إذ إنَّ أكثرَ الحُجَّاجِ على جهلٍ كبيرٍ بمناسِكِ الحجِّ، ومعَرَفةِ الواجِبِ فيه (18) .
المطلب الثَّاني: سَتْرُ العورةِ
سَتْرُ العورةِ شرطٌ لا يصِحُّ الطَّوافُ بدونه، وهذا مَذهَبُ الجُمْهورِ: المالِكيَّة (19) ، والشَّافعيَّة (20) ، والحَنابِلة (21) ، وحُكِيَ الإجماعُ على وجوبِه (22) .
الأدِلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتاب
قَولُه تعالى: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ[الأعراف: 31].
وَجْهُ الدَّلالةِ
أنَّ سببَ نُزولِ الآيةِ أنَّهم كانوا يطوفونَ بالبيتِ عُراةً، وكانت المرأةُ تطوفُ بالبيتِ وهي عُريانةٌ، فنزلت هذه الآيةُ، وقد ثبت هذا التفسيرُ عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، وعلى ذلك جماهيرُ عُلَماءِ التَّفسيرِ، وصورةُ سبَبِ النُّزولِ قطعيَّة الدخولِ عند أكثَرِ الأصوليِّينَ (23) .
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عن أبي هريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((بعثني أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ في الحجَّةِ التي أمَّره عليها رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قبل حَجَّةِ الوداعِ في رَهْطٍ، يؤذِّنونَ في النَّاسِ يومَ النَّحْر: لا يحُجُّ بعد العامِ مُشْرِكٌ، ولا يطوفُ بالبيتِ عُريانٌ)) (24) .
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الحديثَ يدلُّ على أنَّ عِلَّةَ المنعِ مِنَ الطَّوافِ كونُه عُريانًا، وهو دليلٌ على اشتراطِ سَتْرِ العورةِ للطَّوافِ (25) .
ثالثًا: من الآثار
2- عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((الطَّوافُ بالبيتِ صلاةٌ)) (26) .
وَجْهُ الدَّلالة
أنَّ قَوْلَه: ((الطَّوافُ صلاةٌ)) يدلُّ على أنَّه يُشتَرَط في الطَّوافِ ما يُشتَرَط في الصَّلاة، إلا ما أخرجه دليلٌ خاصٌّ كالمشيِ فيه، والانحرافِ عن القبلةِ، والكلامِ، ونحوِ ذلك، ولَمَّا كان من شروطِ الصَّلاةِ المُجْمَعِ عليها عند أهل العِلمِ سَتْرُ العَورةِ، كان شرطًا أيضًا لصِحَّةِ الطَّواف (27) .
المطلب الثَّالث: الطَّهارةُ مِنَ الحدثِ الأصغرِ والأكبرِ في الطَّوافِ
الفرع الأوَّل: طوافُ الحائِضِ لغيرِ عُذْرٍ
يَحْرُمُ طوافُ الحائِضِ لغيرِ عُذرٍ (28) .
الأدِلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال لها حينَ حاضت وهي مُحْرِمةٌ: ((افعلي ما يفعَلُ الحاجُّ، غيرَ أن لا تطوفِي بالبيتِ حتى تطهُري))، وفي روايةٍ: ((حتى تغتَسلي)) (29) .
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نهى عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها أن تطوفَ بالبيتِ وهي حائِضٌ، والنهيُ في العباداتِ يقتضي الفسادَ، وذلك يقتضي بُطلانَ الطَّوافِ لو فعَلَتْه (30) .
2- عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها: ((أنَّ صفيَّةَ حاضت، فقال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وإنَّها لحابِسَتُنا، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، قد زارت يومَ النَّحْرِ، قال: فلْتَنْفِرْ معكم)) (31) .
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أن هذا الحديثَ يدلُّ على أنَّ الحائِضَ تنتظرُ حتى تطهُرَ ثم تطوف، وهذا يدلُّ على اشتراطِ الطَّهارةِ (32) .
ثانيًا: مِنَ الإجماعِ
أجمع العُلَماءُ على تحريمِ طوافِ الحائِضِ؛ نقله النوويُّ (33) ، وأقرَّه الصَّنعانيُّ (34)
الفرع الثَّاني: طوافُ الحائِضِ عند الضَّرورةِ
يجوزُ للحائِضِ الطَّواف، إذا كانت مضطرةً لذلك، كأن تكونَ مع رُفقةٍ لا ينتظِرونَها ولا يُمْكِنُها البقاءُ (35) ، لكن تتوقَّى ما يُخْشَى منه تنجيسُ المسجِدِ بأن تستثْفِرَ (36) ، وهذا اختيارُ ابنِ تيميَّة (37) ، وابنِ القَيِّمِ (38) وابنِ عُثيمين (39) وبه أفتت اللجنةُ الدائمةُ (40)
الأدِلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتاب
قَولُه تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ[التغابن: 16].
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
عن أبي هريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((وإذا أمَرْتُكم بأمرٍ فَأْتُوا منه ما استَطَعْتُم)) (41) .
ثالثًا: أنَّ الصَّلاةَ أعظَمُ مِنَ الطَّواف، ولو عجز المصلِّي عن شرائِطِها مِنَ الطَّهارة أو سَتْرِ العورةِ أو استقبالِ القبلةِ؛ فإنَّه يُصَلِّي على حسَبِ حالِه، فالطَّوافُ أَوْلى بذلك؛ فإنَّ أصولَ الشريعةِ مبنيَّةٌ على أنَّ ما عجز عنه العبدُ مِن شُروطِ العباداتِ يَسْقُطُ عنه، وكما لو عجز الطَّائِفُ أن يطوف بنَفْسِه راكبًا وراجِلًا، فإنَّه يُحْمَلُ ويُطافُ به (42) .
رابعًا: تستَثْفِرُ لئلَّا يسيلَ الدَّمُ، فيُلَوِّثَ المسجِدَ (43)
الفرع الثالث: طَوافُ المُستحاضَةِ ونَحوِها
تطوفُ المستحاضةُ ومَن به سَلَسُ البَولِ ونحوُهما بالبيتِ، ولا شيءَ عليهما.
الدَّليلُ مِنَ الإجماعِ:
نقلَ الإجماعَ على ذلك ابن تيميَّة (44) ، وابن القيِّم (45) .
الفرع الثَّالث: اشتراطُ الطَّهارة مِنَ الحَدَثِ في الطَّوافِ
أجمَعَ أهلُ العلمِ على مشروعيَّةِ الطَّهارة في الطَّوافِ (46) ، ثم اختلفوا في اشتراطِها على أقوالٍ، أقواها قولانِ:
القول الأوّل: أنَّ الطَّهارةَ مِنَ الحَدَثِ شَرْطٌ في صِحَّةِ الطَّوافِ، وهذا مَذهَبُ الجُمْهورِ (47) مِنَ المالِكيَّة (48) , والشَّافعيَّة (49) , والحَنابِلة (50) .
الأدِلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها ((أوَّلُ شيءٍ بدأ به حين قَدِمَ مكَّة أنه توضَّأَ ثم طاف بالبيتِ)) (51) .
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّ فِعْلَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا كان لبيانِ نصٍّ مِن كتابِ الله، فهو على اللُّزومِ والتحتُّم، فدلَّ ذلك على اشتراطِ الطَّهارةِ للطَّوافِ؛ ولأنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَيَّنَه بفِعْلِه، وقال: خُذوا عنِّي مناسِكَكم، ولم يَرِدْ دليلٌ يخالِفُ ذلك؛ فثبت أنَّ الطَّهارةَ للطَّوافِ شَرْطٌ (52) .
2- قولُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لعائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها حين حاضت، وهي مُحْرِمةٌ: ((افعلي ما يفعَلُ الحاجُّ، غيرَ أن لا تطوفي بالبيتِ، حتَّى تطْهُرِي)) وفي روايةٍ ((حتى تغتَسِلي)) (53) .
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الرسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رخَّصَ لعائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها أن تفعلَ وهي حائضٌ كلَّ ما يفعَلُه الحاجُّ غيرَ الطَّوافِ، فإنَّه جَعَلَه مقيَّدًا باغتسالِها وطهارَتِها مِنَ الحيضِ، فدَلَّ على اشتراطِ الطَّهارةِ للطَّوافِ، وفي معنى الحائِضِ: الجُنُبُ والمُحْدِثُ (54) .
3- عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها: ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم أراد مِن صفيَّةَ بعضَ ما يريدُ الرَّجُلُ مِن أهلِه. فقالوا: إنها حائِضٌ يا رسولَ اللهِ. قال: وإنَّها لحابِسَتُنا، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، قد زارت يومَ النَّحْرِ، قال: فلْتَنْفِرْ معكم)) (55) .
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أن هذا الحديثَ يدلُّ على أنَّ الحائِضَ تنتظِرُ حتى تطْهُرَ ثم تطوف، وهذا يدلُّ على اشتراطِ الطَّهارةِ (56) .
ثانيًا: مِنَ الآثارِ
عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((الطَّوافُ بالبيتِ صلاةٌ...)) (57) .
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّه شَبَّه الطَّوافَ بالصَّلاةِ, فدَلَّ ذلك على أنَّ للطَّوافِ جميعَ أحكامِ الصَّلاة إلَّا ما دلَّ الدَّليلُ على استثنائِه؛ كالمَشْيِ، والكلامِ، وغَيْرِه, ومن ذلك الطَّهارةُ؛ لِقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تقبَلُ صلاة بغَير طُهورٍ)) (58) .
القول الثاني: أنَّ الطَّهارةَ سُنَّةٌ في الطَّوافِ، وهذا قولٌ عند الحَنَفيَّة (59) ، وروايةٌ عن أحمَدَ (60) ، وهو قولُ ابْنِ حَزْمٍ (61) ، وابنِ تيميَّة (62) ، وابنِ القَيِّم (63) ، وابنِ عُثيمين (64) .
وذلك للآتي:
أوَّلًا: أنه لم يَنقُلْ أحدٌ عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه أمَرَ الطَّائفينَ بالوضوء، ولا باجتنابِ النَّجاسة، لا في عُمَرِهِ ولا في حَجَّتِه مع كثرةِ مَن حَجَّ معه واعتمَرَ، ويمتَنِعُ أن يكون ذلك واجبًا ولا يُبَيِّنه للأمَّة، وتأخيرُ البيانِ عن وَقْتِه ممتنِعٌ (65) .
ثانيًا: قياسًا على أركانِ الحَجِّ وواجباتِه؛ فإنَّه لا يُشتَرَط لهما الطَّهارة، فكذلك الطَّوافُ، لا يُشتَرَط له الطَّهارةُ (66) .
المطلب الرابع: ابتداءُ الطَّوافِ مِنَ الحَجَرِ الأسودِ
ابتداءُ الطَّوافِ مِنَ الحَجَرِ الأسودِ شَرْطٌ لصحَّةِ الطَّواف، فلا يُعتَدُّ بالشَّوط الذي بدأه بعد الحَجَرِ الأسود، وهو مذهَبُ الشَّافعيَّة (67) , والحَنابِلة (68) , وروايةٌ عند الحَنَفيَّة (69) ، وقولٌ عند المالِكيَّة (70) .
الأدِلَّة مِنَ السُّنَّةِ:
1- عَنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((رأيتُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حين يَقْدَمُ مكَّةَ، إذا استلَمَ الرُّكْنَ الأسودَ أوَّلَ ما يطوف؛ يَخُبُّ ثلاثةَ أطوافٍ مِنَ السَّبْعِ)) (71) .
2- عَنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((رَمَلَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنَ الحَجَرِ إلى الحَجَرِ ثلاثًا ومشى أربعًا)) (72) .
وَجْهُ الدَّلالةِ:
3- أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم واظب على ابتداءِ الطَّوافِ مِنَ الحجَرِ الأسودِ, ومواظَبَتُه دليلٌ على فرضيَّةِ الابتداءِ به؛ لأنَّها بيانٌ لإجمالِ القرآنِ في قَولِه تعالى: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ، وقد قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لِتَأْخُذوا مناسِكَكم)) (73) .
المطلب الخامس: أن يجعَلَ البيتَ عن يَسارِه
يُشتَرَط أن يجعَلَ البيتَ عن يسارِه، وهو مَذهَبُ الجُمْهورِ (74) مِنَ المالِكيَّة (75) ، والشَّافعيَّة (76) ، والحَنابِلة (77) .
الدَّليل مِنَ السُّنَّةِ:
عن جابِرِ بنِ عبدِ الله رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَمَّا قَدِمَ مكَّة أتى الحَجَرَ فاستلَمَه ثم مشى على يمينِه فرَمَلَ ثلاثًا ومشى أربعًا)) (78) ، وقد قال: ((لِتَأْخُذوا مناسِكَكم)) (79) .
المطلب السادس: دخولُ الحِجْرِ ضمِنَ الطَّوافِ
الطَّوافُ مِنْ وراءِ الحِجْرِ (80) فَرْضٌ، مَن تَرَكَه لم يُعْتَدَّ بطوافِه، حتى لو مشى على جدارِه لم يُجْزِئْه، وهذا مَذهَبُ الجُمْهورِ: المالِكيَّة (81) , والشَّافعيَّة (82) , والحَنابِلة (83) .
الأدِلَّة مِنَ السُّنَّةِ:
1- عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال لها: ((ألَمْ تَرَيْ أنَّ قَوْمَكِ لَمَّا بَنَوُا الكعبةَ اقتَصَروا عن قواعِدِ إبراهيمَ؟ فقلْتُ: يا رسولَ اللهِ، ألا تَرُدُّها على قواعِدِ إبراهيمَ؟ قال: لولا حِدْثانُ قَوْمِك بالكُفْرِ لفَعَلْتُ، فقال عبدُ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنه: لئِنْ كانت عائشةُ رَضِيَ اللهُ عنها سَمِعَتْ هذا من رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما أُرى رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تَرَكَ استلامَ الرُّكْنينِ اللَّذينِ يَلِيانِ الحِجْرَ إلَّا أنَّ البيتَ لم يُتَمَّمْ على قواعِدِ إبراهيمَ، وعنها قالت: سألتُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن الجَدْرِ؛ أمِنَ البيتِ هو؟ قال: نَعَمْ)) (84) .
1- عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لولا أنَّ قَوْمَك حديثو عهدٍ بجاهليةٍ- أو قال بكُفْرٍ- لأنفقْتُ كَنْزَ الكعبةِ في سبيلِ اللهِ؛ ولجعَلْتُ بابَها بالأرضِ؛ ولأدخَلْتُ فيها مِنَ الحِجْرِ)) (85) .
وَجْهُ الدَّلالةِ مِنَ الحديثينِ:
أنَّ الحِجْر أكثَرُه مِنَ الكعبة؛ فيجب أن يكونَ الطَّوافُ مِن ورائه، فإنْ لم يَطُفْ من ورائِه لم يتحَقَّقِ الطَّوافُ حول الكعبة (86) .
2- مواظبةُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على الطَّوافِ مِن وراءِ الحِجْرِ، وفِعْلُه بيانٌ للقرآنِ الكريم، فيلتَحِق به؛ فيكون فَرضًا (87) .
المطلب السابع: أن يقَعَ الطَّوافُ في المكانِ الخاصِّ (داخِلَ المسجِدِ الحرام)
يُشْتَرَط أن يكونَ مكانَ الطَّوافِ حول الكعبةِ المُشَرَّفة داخِلَ المسجِدِ الحرام، قريبًا مِنَ البيتِ أو بعيدًا عنه، وهذا شَرْطٌ متَّفَقٌ عليه بين المذاهِبِ الفقهيَّةِ الأربعةِ: الحَنَفيَّة (88) , والمالِكيَّة (89) , والشَّافعيَّة (90) , والحَنابِلة (91) ، وحُكِيَ الإجماعُ على عَدَمِ صحَّةِ الطَّوافِ خارِجَ المسجِدِ الحرام (92)
الأدِلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتاب
قَولُه تعالى: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ[الحج: 29].
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ، أمر بالطَّوافِ بالبيت، فمن طاف خارجَ البيت لم يكُنْ طائفًا به (93) .
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
فِعْلُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم, فقد طاف عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ داخِلَ المسجِدِ الحرامِ، وقال: ((لِتَأْخُذوا مناسِكَكم)) (94) .
ثالثًا: أنَّه إذا طاف خارِجَ المسجِدِ لم يكن طائفًا بالبيتِ، وإنَّما طاف حول المسجِدِ (95) .
المطلب الثامن: الطَّوافُ بالبيتِ سَبْعًا
يُشتَرَط أن يطوف بالبيتِ سبعًا، ولا يُجْزِئُ أقَلُّ منها، وهو مَذهَبُ الجُمْهورِ مِنَ المالِكيَّة (96) ، والشَّافعيَّة (97) ، والحَنابِلة (98) ، وهو قول الكمال ابن الهُمامِ مِنَ الحَنَفيَّة (99) ، وبه قال بعضُ السَّلَف (100) .
الأدِلَّة مِنَ السُّنَّةِ:
1- عَنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((قَدِمَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فطاف بالبيت سبعًا)) (101) ، وقد قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لِتَأْخُذوا مناسِكَكم)) (102) .
2- عن جابرِ بنِ عبد الله رَضِيَ اللهُ عنهما أنه قال في حديثِه الطَّويلِ في صِفَةِ حجَّةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((حتى إذا أتينا البيتَ معه، استلم الرُّكْنَ فرَمَلَ ثلاثًا، ومشى أربعًا)) (103) .
فرعٌ: الشَّكُّ في عَدَدِ الأشواطِ
لو شكَّ في أثناءِ الطَّوافِ في عددِ الأشواطِ التي طافها؛ فإنَّه يبني على اليقينِ، وهو الأقلُّ، وهذا مَذهَبُ الجُمْهورِ: المالِكيَّة (104) ، والشَّافعيَّة (105) والحَنابِلة (106) ، وحُكِيَ الإجماعُ على ذلك (107) .
الدَّليل مِنَ السُّنَّةِ:
عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا شكَّ أحدُكم في صلاتِه، فلم يَدْرِ كم صلَّى: ثلاثًا أم أربعًا، فلْيَطْرَحِ الشَّكَّ ولْيَبْنِ على ما استيقَنَ، ثم يسجُدْ سجدتينِ قبل أن يُسَلِّمَ؛ فإن كان صلَّى خمسًا شفعْنَ له صلاتَه، وإن كان صلَّى إتمامًا لأربعٍ كانتا ترغيمًا للشيطانِ)) (108) .
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّه أَمَر باطِّراحِ الشَّكِّ والبناءِ على اليقين، وهو الأقلُّ، وفي حُكْمِ الصَّلاةِ: الطَّوافُ (109) .
المطلب التاسع: الموالاةُ بينَ الأشواطِ
تجِبُ الموالاةُ بين الأشواطِ، وهذا مذهب المالِكيَّة (110) ، والحَنابِلة (111) ، واختاره ابنُ عُثيمين (112) .
الأدِلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والى بين أشواطِ طَوافِه، وقد قال: ((لِتَأْخُذوا مناسِكَكم)) (113) .
ثانيًا: أنَّ الطَّواف كالصَّلاةِ؛ فيُشتَرَط له الموالاةُ كسائِرِ الصَّلواتِ، أو أنَّه عبادةٌ متعلِّقةٌ بالبيت؛ فاشتُرِطَتْ لها الموالاةُ كالصَّلاةِ (114) .
فرعٌ: حكمُ قَطْعِ الطَّوافِ إذا أقيمَتِ الصَّلاةُ
إذا أُقِيمَتْ صلاةُ الفريضةِ، فإنَّه يقطَعُ الطَّوافَ بنيَّةِ الرُّجوعِ إليه بعد الصَّلاة، فإذا قُضِيَتِ الصَّلاة يبدأ من حيث وَقَف، وهذا مَذهَبُ الجُمْهورِ: الحَنَفيَّة (115) ، والمالِكيَّة (116) ، والشَّافعيَّة (117) ، وبه قال أكثَرُ أهلِ العِلمِ (118) ، وهو قَولُ ابْنِ حَزْمٍ (119) .
الأدِلَّة:
دليلُ قَطْعِ الصَّلاة:
عن أبي هريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إذا أقيمَتِ الصَّلاةُ فلا صلاةَ إلَّا المكتوبةُ)) (120) .
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الطَّوافَ صلاةٌ، فيدخُلُ في عمومِ الخبرِ، بوجوبِ المبادرةِ إلى الصَّلاةِ، وقَطْعِ طوافِه (121) .
دليلُ البناءِ على ما سبق:
أنَّ ما سبق بُنِيَ على أساسٍ صحيحٍ، وبمقتضى إذنٍ شرعيٍّ؛ فلا يُمكِنُ أن يكون باطلًا إلَّا بدليلٍ شرعيٍّ (122) .
المطلب العاشر: المَشيُ للقادِرِ عليه
إذا كان قادرًا على المشي، فيجب عليه أن يطوف ماشيًا، وهذا مَذهَبُ الجُمْهورِ: الحَنَفيَّة (123) ، والمالِكيَّة (124) ، والحَنابِلة (125) .
الأدِلَّة مِنَ السُّنَّةِ:
1- عن أمِّ سَلَمةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((شكوتُ إلى رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنِّي أشتكي، قال: طوفي مِن وراءِ النَّاسِ وأنت راكبةٌ، فطفتُ ورسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُصَلِّي إلى جَنْبِ البيتِ، يقرأُ بالطُّورِ وكتابٍ مَسطورٍ)) (126) .
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الترخيصَ لها بالطَّوافِ راكبةً بسبب العُذْرِ يدلُّ على أنَّ العزيمةَ بخلاف ذلك، وأنَّ الأصلَ أن يطوفَ ماشِيًا (127) .
2- عن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((طاف رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالبيت في حجَّةِ الوداعِ على راحِلَتِه، يستلِمُ الحَجَرَ بمِحْجَنِه؛ لِأنْ يراه النَّاسُ وَلْيُشْرِفَ وليسألوه؛ فإنَّ النَّاس غَشُوه)) (128) .
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما طاف راكبًا إلا لعُذرٍ، وهو أن يراه النَّاس ليتأسَّوْا به (129) .
الفرعٌ الأول: حكمُ الطوافِ راكبًا أو محمولًا للعاجزِ عن المَشي
إذا كان عاجزًا عن المشيِ، وطاف راكبًا أو محمولًا، فلا فداءَ ولا إثمَ عليه.
الأدِلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عن أمِّ سَلَمةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((شكوتُ إلى رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنِّي أشتكي، قال: طوفي مِن وراءِ النَّاسِ وأنت راكبةٌ، فطفتُ ورسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُصَلِّي إلى جَنْبِ البيتِ، يقرأُ بالطُّورِ وكتابٍ مَسطورٍ)) (130) .
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّه رخَّصَ لها في الطَّوافِ راكبةً للعُذْرِ (131) .
2- عن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((طاف رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالبيت في حَجَّةِ الوداع على راحِلَتِه، يستلِمُ الحَجَر بمِحْجَنِه؛ لأن يراه النَّاسُ ولْيُشْرِفَ وليسألوه؛ فإنَّ النَّاس غَشُوه)) (132) .
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم طاف راكبًا للعذر، وهو أن يراه النَّاس ليتأسَّوْا به (133) .
ثانيًا: مِنَ الإجماعِ
نقلَ الإجماعَ على ذلك ابْنُ عَبْدِ البَرِّ (134) ، والباجي (135) وابنُ قُدامة (136) وابنُ تيميَّة (137) وابنُ القَيِّم (138) .
الفرعٌ الثاني: طوافُ الصَّبيِّ
الصَّبيُّ الصَّغيرُ يُطافُ به.
الدليل من الإجماع:
نقلَ الإجماعَ على ذلك ابن المنذر (139) .

الوافي 14-07-2021 04:18 AM

المبحث الأوَّل: الاضْطِباعُ
المطلب الأوَّل: تعريفُ الاضْطِباعِ
الاضطباعُ لغةً: مشتقٌّ مِنَ الضَبْع, بمعنى: العَضُد؛ سُمِّيَ بذلك لإبداءِ أحدِ الضَّبعينِ (1) .
الاضطباعُ اصطلاحًا: أن يتوشَّحَ بردائِه ويُخْرِجَه من تحتِ إبطِه الأيمنِ، ويُلقِيَه على مَنْكِبِه الأيسرِ، ويغَطِّيَه، ويبدِيَ مَنْكِبَه الأيمنَ (2) .
المطلب الثَّاني: حُكْمُ الاضطباعِ
الاضطباعُ سُنَّةٌ مِن سُنَنِ الطَّواف، وهو للرِّجالِ دون النِّساء, وهذا مَذهَبُ الجُمْهورِ: الحَنَفيَّة (3) , والشَّافعيَّة (4) , والحَنابِلة (5) .
الأدِلَّة مِنَ السُّنَّةِ:
1- عن يَعلَى بنِ أمَيَّةَ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم طاف مُضْطَبِعًا)) (6) .
2- عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابَه اعتمروا مِنَ الجِعْرانَةِ، فرمَلوا بالبيتِ، وجعلوا أردِيَتَهم تحت آباطِهم، قد قَذَفوها على عواتِقِهم اليُسرى)) (7) .
3- عن أسلَمَ مولى عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه قال: سمعْتُ عُمَرَ بنَ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه يقول: ((فِيمَ الرَّمَلانُ (8) اليومَ والكَشْفُ عن المناكبِ، وقد أطَّأَ (9) اللهُ الإسلامَ، ونفى الكفْرَ وأهلَه، مع ذلك لا نَدَعُ شيئًا كنَّا نَفْعلُه على عهدِ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)) (10) .
المطلب الثَّالث: الطَّواف الذي يشرع فيه الاضطباع؟
الاضطباعُ مشروعٌ في طوافِ القُدومِ, وطوافِ العُمْرةِ فقط، وهو مذهَبُ الحَنابِلة (11) , وقولٌ عند الشَّافعيَّة (12) , واختاره ابنُ باز (13) , وابنُ عُثيمين (14) .
الأدِلَّة مِنَ السُّنَّةِ:
1- عن يَعلَى بنِ أميَّةَ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم طاف مُضْطَبِعًا)) (15) .
2- عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابَه، اعتَمَروا مِنَ الجِعْرَانةِ، فرَمَلوا بالبيتِ، وجعلوا أردِيَتَهم تحت آباطِهم، قد قذفوها على عواتِقِهم اليُسرى)) (16) .
وَجْهُ الدَّلالةِ:
دلَّ هذانِ الحديثانِ على أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إنَّما اضطبَعَ في طوافِه أوَّلَ مَقْدَمِه، ولم يُروَ عنه الاضطباعُ في غيرِ ذلك.
المبحث الثَّاني: الرَّمَل
المطلب الأوَّل: تعريفُ الرَّمَل
الرَّمَل لغةً: الهَرْوَلة؛ يقال: رمل: إذا أسرعَ في المشيِ، وهزَّ مَنْكِبَيه (17) .
الرَّمَل اصطلاحًا: هو الإسراعُ في المشيِ، مع تقارُبِ الخُطى وتحريكِ المَنْكِبَينِ, وهو دون الوثوبِ والعَدْوِ، ويُسَمَّى أيضًا الخَبَب (18) .
المطلب الثَّاني: حُكْمُ الرَّمَل
الرَّمَلُ سُنَّةٌ للمُحْرمِ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّة (19) , والمالِكيَّة (20) , والشَّافعيَّة (21) , والحَنابِلة (22) .
الأدِلَّة مِنَ السُّنَّةِ:
1- عَنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان إذا طاف بالبيت الطَّوافَ الأوَّلَ يَخُبُّ ثلاثةَ أطوافٍ، ويمشي أربعةً، وأنَّه كان يسعى بَطْنَ المَسيلِ، إذا طاف بين الصَّفَا والمروةِ)) (23) .
2- حديثُ جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنه- الطويل- في حجَّةِ الوداعِ؛ قال: ((فرَمَلَ ثلاثًا، ومشى أربعًا)) (24) .
3- عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((قَدِمَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابُه مكَّةَ، وقد وَهَنَتْهم حُمَّى يثربَ، فقال المشركون: إنَّه يَقْدَمُ عليكم غدًا قومٌ قد وَهَنَتْهم الحُمَّى، ولَقُوا منها شِدَّةً، فجلسوا مِمَّا يلي الحِجْرَ، وأمَرَهم النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَرْمُلوا ثلاثةَ أشواطٍ، ويَمْشُوا ما بين الرُّكْنينِ؛ ليرى المشركونَ جَلَدَهم، فقال المشركونَ: هؤلاءِ الذينَ زَعَمْتم أنَّ الحُمَّى قد وَهَنَتْهم، هؤلاءِ أجلَدُ مِن كذا وكذا)) (25) .
4- عن جابرِ بنِ عبدِ الله رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((رأيتُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رَمَل مِنَ الحَجَرِ الأسودِ حتى انتهى إليه ثلاثةَ أطوافٍ)) (26) .
5- عَنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((إنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رمَلَ مِنَ الحَجَر إلى الحَجَر)) (27) .
المطلب الثَّالث: الرَّمَل في الأشواطِ الثَّلاثةِ الأُوَلِ
الرَّمَلُ يكون في الثَّلاثةِ الأشواطِ الأُوَلِ مِنَ الطَّوافِ.
الأدِلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عَنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان إذا طاف بالبيت الطَّوافَ الأوَّلَ، يَخُبُّ ثلاثةَ أطوافٍ، ويمشي أربعةً)) (28) .
2- حديثُ جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنه- الطويلُ- في حجَّةِ الوداعِ، قال: ((فرَمَل ثلاثًا، ومشى أربعًا)) (29) .
ثانيًا: مِنَ الإجماعِ
نقلَ الإجماعَ على ذلك ابْنُ عَبْدِ البَرِّ (30) ، وابنُ قُدامة (31) , والنوويُّ (32) .
المطلب الرابع: الرَّمَلُ خاصٌّ بطوافِ القُدُومِ وبطوافِ المُعْتَمِر فقط
الأدِلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- حديثُ جابر رَضِيَ اللهُ عنه- الطويلُ- في حجَّةِ الوداعِ، قال: ((فرَمَل ثلاثًا، ومشى أربعًا)) (33) .
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أن هذا الرَّمَلَ كان في طوافِ القُدومِ (34) .
2- عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((قَدِمَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابُه مكَّةَ، وقد وَهَنَتْهم حُمَّى يثربَ، فقال المشركون: إنَّه يَقْدَمُ عليكم غدًا قومٌ قد وَهَنَتْهم الحُمَّى، ولَقُوا منها شِدَّةً، فجلسوا مِمَّا يلي الحِجْرَ، وأمَرَهم النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَرْمُلوا ثلاثةَ أشواطٍ، ويَمْشُوا ما بين الرُّكْنينِ؛ ليرى المشركونَ جَلَدَهم، فقال المشركونَ: هؤلاءِ الذينَ زَعَمْتم أنَّ الحُمَّى قد وَهَنَتْهم، هؤلاءِ أجلَدُ مِن كذا وكذا)) (35) .
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّ هذا الرَّمَل كان في طوافِ العُمْرةِ (36) .
ثانيًا: مِنَ الإجماعِ
نقلَ الإجماعَ على ذلك ابْنُ عَبْدِ البَرِّ (37) ، وابن قُدامة (38) .
المطلب الخامس: هلْ على النِّساءِ رَمَلٌ؟
ليسَ على النِّساءِ رمَلٌ في الطَّوافِ.
الدليل من الإجماع:
نقلَ الإجماعَ على ذلك ابن المنذر (39) ، الطحاوي (40) ، وابن عبد البر (41) ، وابن بطال (42) ، وابن رشد (43) .
المبحث الثَّالث: استلامُ الحَجَرِ الأسودِ وتَقبيلُه
المطلب الأوَّل: حُكْمُ استلامِ الحَجَرِ الأسوَدِ وتقبيلِه
يُسَنُّ استلامُ الحَجَر الأسوَدِ وتقبيلُه (44) .
الأدِلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- أنَّ عُمَرَ بنَ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه قال للرُّكْن: ((أمَا واللهِ، إنِّي لأعلمُ أنَّك حَجَر لا تَضُرُّ ولا تنفَعُ، ولولا أنِّي رأيتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم استَلَمَك ما استَلَمْتُك، فاسْتَلَمَه، ثمَّ قال: فما لنا وللرَّمَل، إنَّما كنَّا راءَيْنا به المشركينَ، وقد أهْلَكَهم اللهُ؟ ثم قال: شيءٌ صَنَعَه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلا نُحِبُّ أن نَتْرُكَه)) (45) ، وفي روايةٍ: ((أنَّه جاء إلى الحَجَرِ الأسوَدِ فقَبَّلَه، فقال: «إنِّي أعلَمُ أنَّك حَجَرٌ لا تضرُّ ولا تنفَعُ، ولولا أنِّي رأيتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُقَبِّلُك ما قَبَّلْتُك)) (46) .
2- عن سُوَيدِ بنِ غَفَلةَ، قال: ((رأيتُ عُمَرَ قبَّل الحَجَرَ والتَزَمَه، وقال: رأيتُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بك حفِيًّا)) (47) .
3- عن الزُّبَير بن عربيٍّ، قال: ((سأل رجلٌ ابنَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما عن استلامِ الحَجَر، فقال: رأيتُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يستَلِمُه ويُقَبِّلُه، قال: قلت: أرأيتَ إن زُحِمْتُ؟ أرأيتَ إن غُلِبْتُ؟ قال: اجعَلْ أرأيتَ باليَمَنِ، رأيتُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَسْتَلِمُه ويُقَبِّلُه)) (48) .
4- عن جابرِ بنِ عبدِ الله رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّه قال في صِفَةِ حَجَّةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَمَّا قَدِمَ مكَّة أتى الحَجَرَ فاستلَمَه، ثم مشى على يَمينِه، فرَمَلَ ثلاثًا، ومشى أربعًا)) (49) .
ثانيًا: مِنَ الإجماع
نقل الإجماعَ على سُنِّيَّة استلامِ الحَجَرِ الأسوَدِ ابْنُ حَزْمٍ (50) ، وابنُ عَبْدِ البَرِّ (51) ، وابنُ رُشْدٍ (52) والنوويُّ (53) .
المطلب الثَّاني: التكبيرُ عند الحَجَرِ الأسْوَدِ في كلِّ طَوْفَةٍ
يُسَنُّ التكبيرُ (54) عند استلامِ الحَجَرِ الأسودِ، أو الإشارةُ إليه، وذلك كلَّما حاذاه في كلِّ طَوْفَةٍ.
الدَّليل مِنَ السُّنَّةِ:
عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((طافَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالبيتِ على بعيرٍ، كلَّما أَتَى الرُّكْنَ أشارَ إليهِ بشيءٍ كان عندَهُ وكَبَّرَ)) (55) .
المطلب الثَّالث: كيفيةُ الإشارةِ إلى الحَجَرِ الأسوَدِ
إذا لم يستَلِمِ الحَجَرَ الأسودَ ويُقَبِّلُه، فله أن يستَلِمَه ويُقَبِّلَ يَدَه، وله أن يستَلِمَه بشيءٍ يكون معه، ويقَبِّلَه، وله أن يشيرَ إليه بِيَدِه من غيرِ تقبيلٍ.
الأدِلَّة مِنَ السُّنَّةِ:
1- عن نافعٍ، قال: ((رأيتُ ابنَ عُمَرَ يستلِمُ الحجَرَ بيَدِه، ثم قبَّلَ يدَه، وقال: ما تركتُه منذ رأيتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يفعَلُه)) (56) .
2- عن أبي الطُّفَيلِ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((رأيتُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يطوف بالبيتِ، ويستلِمُ الرُّكْنَ بمِحْجَنٍ معه، ويقبِّلُ المِحْجَنَ)) (57) .
3- عن جابرِ بنِ عبد الله رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((طاف رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالبيتِ في حجَّةِ الوداعِ على راحِلَتِه يستلِمُ الحَجَر بمِحْجَنِه؛ لأنْ يراه النَّاسُ ولِيُشْرِفَ ولِيَسألوه؛ فإنَّ النَّاسَ غَشُوه)) (58) .
المبحث الرابع: استلامُ الرُّكْنِ اليمانيِّ
يُستحبُّ استلامُ الرُّكْنِ اليمانيِّ، وهو الرُّكْنُ الواقِعُ قبل رُكْنِ الحَجَرِ الأسودِ, ولا يُقَبِّلُه، ولا يُقَبِّلُ ما استلَمَ به.
الأدِلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عَنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((ما تركتُ استلامَ هذين الرُّكْنينِ: اليمانيِّ والحَجَر، مُذْ رأيتُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَسْتَلِمُهما، في شدةٍ ولا رخاءٍ)) (59) .
2- عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّه قال: ((لم أرَ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يمسَحُ مِنَ البيت، إلَّا الرُّكْنينِ اليَمَانِيَّينِ)) (60) .
3- عن سالمٍ عن أبيه أنه قال: ((لم يكنْ رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يستلِمُ من أركانِ البَيْتِ إلَّا الرُّكْنَ الأسوَدَ، والذي يليه، من نحوِ دُورِ الجُمَحِيِّينَ)) (61) .
ثانيًا: مِنَ الإجماعِ
نقلَ الإجماعَ على ذلك ابْنُ عَبْدِ البَرِّ (62) ، وابنُ رُشْدٍ (63) .
مطلبٌ: استلامُ غيرِ الرُّكْنينِ اليَمانِيَّينِ:
لا يُسَنُّ استلامُ غيرِ الرُّكْنينِ اليَمانِيَّينِ.
الأدِلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((لم أرَ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يستَلِمُ مِنَ البيتِ إلَّا الرُّكْنينِ اليَمانِيَّينِ)) (64) .
2- عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال لها: ((ألَمْ تَرَيْ أنَّ قَوْمَكِ لَمَّا بَنَوُا الكعبةَ اقتَصَروا على قواعِدِ إبراهيمَ؟ فقلْتُ: يا رسولَ اللهِ، ألا تَرُدُّها على قواعِدِ إبراهيمَ؟ قال: لولا حِدْثانُ قَوْمِك بالكُفْرِ لفَعَلْتُ، فقال عبدُ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما: لئِنْ كانت عائشةُ رَضِيَ اللهُ عنها سَمِعَتْ هذا من رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما أُرى رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تَرَكَ استلامَ الرُّكْنينِ اللَّذينِ يَلِيانِ الحِجْرَ إلَّا أنَّ البيتَ لم يُتَمَّمْ على قواعِدِ إبراهيمَ، وعنها قالت: سألتُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن الجَدْرِ؛ أمِنَ البيتِ هو؟ قال: نَعَمْ)) (65) .
ثانيًا: أنَّ الرُّكْنَ الذي فيه الحَجَرُ الأسوَدُ فيه فضيلتانِ: كَوْنُ الحَجَرِ فيه، وكونُه على قواعِدِ إبراهيمَ عليه السلام، والرُّكْنَ اليمانيَّ فيه فضيلةٌ واحدة: وهي كونُه على قواعِدِ أبينا إبراهيمَ عليه السَّلام، وأمَّا الشَّاميَّانِ فليس لهما شيءٌ مِنَ الفضيلتينِ؛ ولذا لم يُشْرَعْ استلامُهما (66) .
المبحث الخامس: الذِّكْرُ والدُّعاءُ في الطَّوافِ
يُستحَبُّ للطَّائِفِ أن يُكْثِرَ مِنَ الذِّكْرِ والدُّعاءِ في طوافِه، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة (67) : الحَنَفيَّة (68) ، والمالِكيَّة (69) ، والشَّافعيَّة (70) ، والحَنابِلة (71) .
وذلك للآتي:
أوَّلًا: أنَّ هذا عَمَلٌ توارَثَه السَّلَفُ (72) .
ثانيًا: أنَّ ذِكْرَ الله مستحَبٌّ في جميعِ الأحوالِ؛ ففي حالِ التلبُّسِ بعبادةِ الطَّوافِ أَوْلى (73) .
مطلبٌ: ما يقولُ بين الرُّكْنينِ اليَمانِيَّينِ
مِنَ الأذكارِ المأثورةِ في الطَّوافِ بين الرُّكْنينِ اليَمانِيَّينِ أن يقول: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
الدَّليل مِنَ السُّنَّةِ:
عن عبدِ اللهِ بنِ السَّائبِ قال: سمعْتُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول ما بين الرُّكْنينِ: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (74) .
المبحثُ السَّادسُ: قراءةُ القرآنِ في الطَّوافِ
لأهْلِ العِلْمِ في قراءةِ القرآنِ في الطَّوافِ قولان:
القول الأوّل: يُستحَبُّ قراءةُ القرآنِ في الطَّوافِ مع تفضيلِ الذِّكْرِ المأثورِ عليه، وهو مذهب الحَنَفيَّة (75) ، والشَّافعيَّة (76) ، وإحدى الرِّوايتينِ عن أحمد (77) ، ورُوِيَ عن طائفةٍ مِنَ السَّلَفِ (78) ، واختاره ابنُ المُنْذِر (79) .
وذلك للآتي:
أوَّلًا: أنَّ الطَّوافَ صلاةٌ، ولا تُكْرَهُ القراءةُ في الصَّلاة (80) .
ثانيًا: أنَّ الموضِعَ موضِعُ ذِكْرٍ، والقرآنُ أفضَلُ الذِّكْر (81) .
ثالثًا: أنَّ قراءةَ القرآنِ مندوبٌ إليها في جميعِ الأحوالِ إلَّا في حالِ الجنابةِ والحَيْضِ (82) .
القول الثاني: يُكْرَه قراءةُ القرآنِ في الطَّوافِ، وهو مذهَبُ المالِكيَّة (83) ، وقولٌ للحَنَفيَّة (84) ، وهو روايةٌ عن أحمَدَ (85) ، وبه قالَتْ طائفةٌ مِنَ السَّلَفِ (86) .
وذلك للآتي:
أوَّلًا: أنَّ هَديَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو الأفضَلُ، والمشروعُ في الطَّوافِ مجرَّدُ ذِكْرِ الله تعالى، ولم يَثْبُتْ عنه في الطَّوافِ قراءةُ قرآنٍ، بل الذِّكْرُ، وهو المتوارَثُ مِنَ السَّلَفِ والمُجمَع عليه، فكان أَوْلى (87) .
ثانيًا: أنَّ ما ما ورد مِنَ الذِّكْرِ مختصًّا بمكانٍ أو زمانٍ أو حالٍ، فالاشتغالُ به أفضل مِنَ الاشتغالِ بالتلاوةِ (88) .
المبحث السابع: الدُّنُوُّ مِنَ البيتِ
يُستحَبُّ للطَّائفِ أن يدنُوَ مِنَ البيتِ, وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّة (89) , والمالِكيَّة (90) , والشَّافعيَّة (91) , والحَنابِلة (92) .
وذلك للآتي:
أوَّلًا: لأنَّ البيتَ أشرَفُ البقاعِ؛ فالدنوُّ منه أفضلُ (93) .
ثانيًا: أنَّه أيسَرُ في استلام الرُّكْنينِ وتقبيلِ الحَجَرِ (94) .
المبحث الثامن: صلاةُ ركعتينِ خَلْفَ المقامِ بعد الطَّوافِ (ركعتا الطَّوافِ)
المطلب الأوَّل: حُكْمُ صلاةِ ركعتينِ خَلْفَ المقامِ بعد الطَّوافِ (ركعتا الطَّواف)
صلاةُ ركعتينِ خَلْفَ المقامِ بعد الطَّواف؛ سُنَّةٌ مؤكَّدةٌ, وهو مذهب الشَّافعيَّة في الأصحِّ (95) ، والحَنابِلة (96) , واختاره ابْنُ حَزْمٍ (97) ، وابنُ باز (98) , وابنُ عُثيمين (99) .
الأدِلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتاب
قَولُه تعالى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى[البقرة: 125].
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- حديثُ جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنه في صِفَةِ حجِّ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وفيه: ((حتَّى إذا أتينا البيتَ معه، استلمَ الرُّكْنَ فرَمَلَ ثلاثًا ومشى أربعًا، ثم نفَذَ إلى مقامِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ، فقرأ: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة: 125] فجعل المقامَ بينه وبين البيتِ... الحديث)) (100) .
2- عن عبدِ اللهِ بنِ أبي أوفى قال: ((اعتمَرَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فطاف بالبيتِ، وصلَّى خلْفَ المقامِ ركعتينِ)) (101) .
3- حديثُ الأعرابيِّ الذي جاء يسألُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن الإسلامِ وما يجِبُ عليه، وفيه: ((خمسُ صلواتٍ في اليومِ واللَّيلة)) فقال: هل عليَّ غيرُهُنَّ؟ قال: ((لا، إلا أن تَطَوَّعَ))... الحديث (102) .
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صرَّح بأنَّه لا يجب شيءٌ مِنَ الصَّلاةِ، إلَّا الصلواتُ الخَمْسُ المكتوباتُ (103) .
4- عن عُبادَةَ بنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((خمسُ صلواتٍ كتَبَهُنَّ اللهُ على العبادِ، فمن جاء بهنَّ لم يُضَيِّعْ منهنَّ شيئًا استخفافًا بحَقِّهِنَّ؛ كان له عند الله عهدٌ أن يُدخِلَه الجنَّةَ، ومن لم يأتِ بهنَّ فليس له عند الله عهْدٌ، إن شاء عذَّبَه، وإن شاء أدخَلَه الجنَّةَ)) (104) .
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أخبَرَ أنَّ الصلواتِ التي فَرَضَها اللهُ على عبادِه، هي الصلواتُ الخَمْسُ فقط, وفي هذا دليلٌ على عدمِ وُجوبِ ركعتَيِ الطَّوافِ (105) .
5-عَنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((من طاف أسبوعًا يُحصيه وصلَّى ركعتينِ، كان له كعَدْلِ رَقبةٍ)) (106)
وَجْهُ الدَّلالةِ:
كونُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أخرَجَ الحديثَ مَخْرَج الفَضْلِ، وجعل لركعتَيِ الطَّوافِ أجرًا محدودًا؛ فإنَّه دليلٌ على أنَّها ليست بواجبةٍ؛ إذ إنَّ الواجِبَ غيرُ محدَّد الأجرِ والثَّوابِ (107) .
المطلب الثَّاني: مكانُ أداءِ رَكْعَتَيِ الطَّوافِ
يُشْرَعُ أداءُ ركعَتَيِ الطَّوافِ خَلْفَ المقامِ.
الأدِلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتاب
قَولُه تعالى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى[البقرة: 125].
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- حديثُ جابرِ بنِ عبدِ الله رَضِيَ اللهُ عنهما في صِفَةِ حَجِّ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وفيه: ((حتى إذا أتينا البيتَ معه، استلمَ الرُّكْنَ، فرَمَلَ ثلاثًا ومشى أربعًا، ثم نفَذَ إلى مقامِ إبراهيمَ عليه السلامُ، فقرأ: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة: 125] فجَعَلَ المقامَ بينه وبين البيتِ... الحديث)) (108) .
2- عَنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((قَدِمَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فطاف بالبيت سبعًا، وصلَّى خلْفَ المقامِ ركعتينِ) (109) .
ثانيًا: مِنَ الإجماعِ
نقلَ الإجماعَ على ذلك النوويُّ (110) ، وابنُ تيميَّة (111) .
المطلب الثَّالث: مَن لم يستَطِعْ أداءَ الركعتينِ خَلْفَ المقامِ لمانعٍ
إذا لم يتيَسَّرْ للطَّائِفِ أداءُ ركعتي الطَّوافِ خَلْفَ المقامِ بسبب الزِّحامِ أو غيره، فإنه يُصَلِّيها في أي مكانٍ تيسَّرَ في المسجِدِ (112) ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّة (113) , والمالِكيَّة (114) , والشَّافعيَّة (115) والحَنابِلة (116) ؛ وذلك لأنَّ الركعتينِ تُجْزِئانِ في كلِّ مكانٍ مِنَ المسجدِ (117) .
المبحث التاسع: استلامُ الحَجَرِ بعد الانتهاءِ مِنَ الطَّوافِ
يُسَنُّ لِمَنِ انتهى مِن طوافِه وصلَّى ركعتيِ الطَّوافِ أن يعود إلى الحَجَرِ فيستَلِمَه، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّة (118) , والمالِكيَّة (119) , والشَّافعيَّة (120) , والحَنابِلة (121) .
الأدِلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
حديث جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنه- الطويلُ- في صِفَةِ حَجِّ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وفيه: ((ثم رَجَعَ إلى الرُّكْنِ فاستلَمَه)) (122) .
ثانيًا: مِنَ الإجماعِ
نقلَ الإجماعَ على ذلك ابْنُ قُدامة (123) وابن عَبْدِ البَرِّ (124) .
مسألةٌ: الكلامُ في الطَّوافِ:
يُكْرَهُ الكلامُ في الطَّوافِ لغَيرِ حاجةٍ، وهو مَذهَبُ الجُمْهورِ: مِنَ الحَنَفيَّة (125) ، والمالِكيَّة (126) ، والحَنابِلة (127) .
الأدِلَّة مِنَ السُّنَّةِ:
عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مرَّ وهو يطوف بالكعبةِ بإنسانٍ رَبَطَ يدَه إلى إنسانٍ بِسَيرٍ، أو بخَيطٍ، أو بشيءٍ غيرِ ذلك، فقَطَعَه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بِيَدِه، ثم قال: قُدْهُ بِيَدِه)) (128) .
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تكلَّمَ في الطَّوافِ لحاجةٍ، وهي الأمرُ بالمعروفِ (129) .

الوافي 14-07-2021 04:18 AM

محتويات الصفحة:

- المبحث الأوَّل: أسماءُ طَوافِ القُدومِ.- المبحث الثَّاني: حُكْمُ طَوافِ القُدُومِ.

المبحث الأوَّل: أسماءُ طَوافِ القُدومِ

يُسمَّى طوافَ القادِمِ، وطوافَ الوُرودِ، وطَوافَ الوارِدِ، وطَوافَ التَّحيَّة، وطَوافَ اللِّقاءِ (1) .

المبحث الثَّاني: حُكْمُ طَوافِ القُدُومِ

طوافُ القُدومِ سُنَّةٌ للقارِنِ والمُفْرِد القادِمَينِ مِن خارجِ مكَّةَ (2) ، وهذا مَذهَبُ الجُمْهورِ: الحَنَفيَّة (3) ، والشَّافعيَّة (4) ، والحَنابِلة (5) .

الأدِلَّة:

أوَّلًا: مِنَ الكِتاب

قَولُه تعالى: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ[الحج: 29].

وَجْهُ الدَّلالةِ:

أنَّ الأمرَ المُطلَق لا يقتضي التَّكرارَ، وقد تعيَّنَ أنَّ المقصودَ بهذا الطَّوافِ طَوافُ الإفاضةِ بالإجماعِ، فلا يكون غيرُه كذلك (6) .

ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ

1- عن محمَّدِ بنِ عبدِ الرحمنِ بنِ نَوفلٍ القُرَشِيِّ، أنَّه سألَ عروةَ بنَ الزبيرِ، فقال: قد حجَّ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأخبَرَتْني عائشةُ رَضِيَ اللهُ عنها: ((أنَّه أوَّلُ شيءٍ بدأ به حين قَدِمَ أنَّه توضَّأَ، ثم طاف بالبيتِ، ثم لم تكُنْ عُمْرةً. ثم حجَّ أبو بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه فكان أوَّلَ شيءٍ بدأ به الطَّوافُ بالبيتِ، ثم لم تكن عُمْرةً، ثم عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنه مثل ذلك، ثم حَجَّ عُثمانُ رَضِيَ اللهُ عنه، فرأيتُه أوَّلُ شيءٍ بدأ به الطَّوافُ بالبيتِ، ثمَّ لم تكُنْ عُمْرةً، ثم معاويةُ، وعبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ، ثم حجَجْتُ مع أبي الزُّبيرِ بنِ العوَّامِ، فكان أوَّلَ شيءٍ بدأ به الطَّوافُ بالبيتِ، ثم لم تكُنْ عُمْرةً، ثم رأيتُ المهاجرينَ والأنصارَ يفعلونَ ذلك، ثم لم تكُنْ عُمْرةً، ثم آخِرُ مَن رأيتُ فَعَلَ ذلك ابنُ عُمَرَ، ثم لم ينقُضْها عُمْرةً- وهذا ابنُ عُمَرَ عِنْدَهم فلا يسألونَه- ولا أحَدٌ مِمَّن مضى، ما كانوا يبدؤونَ بشيءٍ حتى يضعوا أقدامَهم مِنَ الطَّوافِ بالبَيْتِ، ثم لا يَحِلُّونَ، وقد رأيتُ أمِّي وخالتي حين تَقْدَمان، لا تبتَدِئان بشيءٍ أوَّلَ مِنَ البيتِ؛ تطوفانِ به، ثم إنَّهما لا تَحِلَّان)) (7) .

2- حديثُ جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، الطويلُ، في صِفَةِ حَجَّةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وفيه: ((حتَّى إذا أتَيْنا البيتَ معه استلَمَ الرُّكْنَ، فرَمَلَ ثلاثًا، ومشى أربعًا)) (8) .

ثالثًا: أنَّ اللهَ سبحانه لم يأمُرْ بذلك الطَّوافِ ولا رسولُه، ولا اتَّفَقَ الجميعُ على وجوبِه، وإنَّما اتفقوا على أنَّه مِن شعائِرِ الحَجِّ ونُسُكِه، وهذا اليقينُ، فلا يُخْرَجُ عنه إلَّا بِبُرهانٍ (9) .

رابعًا: سقوطُ هذا الطَّوافِ عن الحائِضِ، فلو كان واجبًا لوجَبَ قضاؤُه وتدارُكُه، أو جَبْرُه بدمٍ (10) .

خامسًا: القياسُ على تحيَّةِ المسجدِ، فإنَّها ليست واجبةً، ولا على مَن تَرَكَها شيءٌ، فكذلك طوافُ القُدومِ، فإنَّه تحيَّةُ البيتِ (11) .

سادسًا: أنَّه لا يجِبُ على أهلِ مكَّةَ بالإجماعِ، ولو كان ركنًا لوجب عليهم؛ لأنَّ الأركانَ لا تختَلِفُ بين أهلِ مكَّة وغيرِهم، كطوافِ الزِّيارةِ، فلمَّا لم يجِبْ على أهل مكَّة دلَّ أنَّه ليس برُكْنٍ (12) .

سابعًا: لأنَّ أركان الحَجِّ لا تتكرَّر، وطوافُ الزِّيارة رُكْنٌ بالإجماعِ، ولو كان طوافُ القدومِ فرضًا لتكرَّرَ (13) .

الوافي 14-07-2021 04:19 AM

المبحث الأول: وقتُ طوافِ القُدومِ
يبدأ وقتُ طوافِ القُدومِ حين دخولِ مكَّةَ، وينتهي بالوقوفِ بعَرَفة، وهذا مَذهَبُ الجُمْهورِ: الحَنَفيَّة (1) ، والمالِكيَّة (2) ، والشَّافعيَّة (3) ، وهو قولٌ للحَنابِلة (4) ، اختاره ابنُ قُدامة (5) ، وابنُ تيميَّة (6) ، وصحَّحَه ابنُ رجبٍ (7) .
الأدِلَّة:
أدِلَّةُ أنَّ طَوافَ القُدوم ِيكونُ عند أوَّلِ القُدومِ إلى مكَّة
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((إنَّ أوَّلَ شيءٍ بدأ به حين قَدِمَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه توضَّأَ ثمَّ طاف)) (8) .
2- عن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، في صِفَةِ حجَّةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((حتى إذا أَتَيْنا البيتَ معه استلم الرُّكْنَ فرَمَلَ ثلاثًا ومشى أربعًا)) (9) .
ثانيًا: لأنَّ طوافَ القُدومِ تحيَّةُ البيت، فاستُحِبَّ البدايةُ به كتحيَّةِ المسجِدِ (10) .
أدِلَّة أنَّ وَقْتَ طوافِ القُدومِ ينتهي بالوقوفِ بعَرَفةَ:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((فطاف الذين أهلُّوا بالعُمْرةِ، ثم حلُّوا، ثم طافوا طوافًا آخرَ، بعد أن رَجَعوا مِن مِنًى، وأمَّا الذين جمعوا بين الحجِّ والعُمْرةِ، فإنَّما طافوا طوافًا واحدًا)) (11) .
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابَه إنَّما طافوا بعد يومِ عَرَفةَ طوافَ الإفاضةِ، ومنهم من كان متمتِّعًا لم يَطُفْ إلَّا طوافَ عُمْرَتِه، ومنهم من لم يُدْرِكِ الحجَّ إلَّا يومَ عَرَفةَ، فعُلِمَ أنَّ طوافَ القُدومِ إنَّما يُشرَع لِمَن أتى البيتَ قبل الوقوفِ بِعَرَفةَ (12) .
ثانيًا: أنَّ المُحْرِم بعد الوقوفِ بعَرَفةَ مُطالَبٌ بطوافِ الفَرْضِ، وهو طوافُ الزيارةِ (13) .
ثالثًا: أنَّ طوافَ الإفاضةِ يُغني عن طوافِ القُدومِ لِمَن لم يَقْدَمِ البيتَ إلَّا بعد يومِ عَرَفةَ، كالصَّلاةِ الفَرْضِ تُغني عن تحيَّة المسجد (14) .
رابعًا: أنَّ طواف القدومِ لو لم يَسْقُطْ بالطَّوافِ الواجِبِ، لشُرِعَ في حقِّ المعتَمِر طوافٌ للقدومِ مع طوافِ العُمْرةِ؛ لأنَّه أوَّلُ قُدومِه إلى البيتِ، فهو به أَوْلى مِنَ المتمتِّع، الذي يعود إلى البيتِ بعد رُؤْيَتِه وطوافِه به (15) .
خامسًا: أنَّ طوافَ القُدومِ شُرِعَ في ابتداءِ الحَجِّ على وجهٍ يترتَّبُ عليه سائرُ الأفعالِ، فلا يكون الإتيانُ به على غيرِ ذلك الوَجْهِ سُنَّةً (16) .
المبحث الثاني: متى يسقُطُ طَوافُ القُدومِ؟
يسقُطُ طوافُ القُدومِ عن أربعةِ أصنافٍ:
أ – الحائض: وفي حُكْمِها النُّفَساء، وذلك إذا استمَرَّ دَمُهما إلى يومِ عَرَفةَ (17) .
الدَّليل مِنَ السُّنَّةِ:
عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((خرَجْنا مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا نذكُرُ إلَّا الحجَّ، حتى جِئْنا سَرِفَ فطَمِثْتُ، فدخل عليَّ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأنا أبكي، فقال: ما يُبْكيكِ؟ فقلت: واللهِ، لوَدِدْتُ أنِّي لم أكُنْ خَرَجْتُ العامَ، قال: ما لكِ؟ لعلَّكِ نَفِسْتِ؟ قلتُ: نعم، قال: هذا شيءٌ كَتَبَه اللهُ على بناتِ آدَمَ، افعَلِي ما يفعلُ الحاجُّ غيرَ أنْ لا تطوفي بالبَيتِ حتى تَطْهُرِي. قالت: فلمَّا كان يومُ النَّحْرِ طَهُرْتُ، فأمَرَني رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فأفَضْتُ)) (18) .
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها لَمَّا حاضت، فقَرَنَتِ الحجَّ إلى العُمْرةِ- بأمْرِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولم تَكُنْ طافت للقُدومِ- لم تطُفْ للقُدومِ، ولا أمَرَها به النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم (19) .
ب- المَكِّي: وفي حُكْمِه الآفاقيُّ إذا أحرم مِنْ مَكَّة (20) .
الأدِلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الإجماعِ
نقل الإجماع على أنَّ المكي ليس عليه إلا طواف الإفاضة ابن رشد (21) .
ثانيًا: أنَّ طَوافَ القُدومِ شُرِعَ للقدومِ، فلا يُتَصَوَّر في حقِّ المكِّي طوافُ القدومِ؛ إذ لا قُدومَ له (22) .
ج- المُعْتَمِر والمتمَتِّع
يسقُطُ عن المُعتَمِر والمتَمَتِّع طوافُ القُدومِ، وهذا مَذهَبُ الجُمْهورِ مِنَ الحَنَفيَّة (23) ، والمالِكيَّة (24) ، والشَّافعيَّة (25) ؛ وذلك لأنَّ طوافَ القُدومِ يندرِجُ في طوافِ العُمْرةِ، ويُجْزِئُ عنهما، كالصَّلاةِ الفَرْضِ تُجْزِئُ عن تحيَّةِ المسجد (26) .
د- مَن قَصَدَ عَرَفةَ رأسًا للوقوفِ
مَن قَصَدَ عَرَفةَ رأسًا للوقوفِ يَسْقُطُ عنه طوافُ القُدومِ، وهذا مَذهَبُ الجُمْهورِ مِنَ الحَنَفيَّة (27) ، والمالِكيَّة (28) ، والشَّافعيَّة (29) .
وذلك للآتي:
أوَّلًا: أنَّ مَحَلَّ طوافِ القُدومِ المسنونِ قبل وقوفِ عَرَفةَ، وقد فات (30) .
ثانيًا: لأنَّ الطَّوافَ المفروضَ عليه قد دخل وقْتُه وخوطِبَ به، فلا يصِحُّ قبل أدائِه أن يتطَوَّعَ بطوافٍ؛ قياسًا على أصْلِ الحجِّ والعُمْرة (31) .
ثالثًا: لأنَّه شُرِعَ في ابتداءِ الحَجِّ على وجهٍ يترتَّبُ عليه سائِرُ الأفعالِ، فلا يكونُ الإتيانُ به على غيرِ ذلك الوَجْهِ سُنَّةً (32) .

الوافي 14-07-2021 04:20 AM

الفصل الأوَّل: تعريفُ السَّعيِ بين الصَّفا والمروةِ
1- السَّعي لغةً: المشيُ، والعَدْوُ مِن غيرِ شَدٍّ (1) .

2- الصَّفا لغةً: جمعُ صفاةٍ، وهي الحَجَرُ الصَّلْدُ الضَّخْم الذي لا يُنْبِتُ شيئًا؛ وقيل: هي الصَّخرةُ الملساءُ (2) .

الصَّفا اصطلاحًا: مكانٌ مرتفِعٌ مِن جبلِ أبي قُبَيسٍ، ومنه ابتداءُ السَّعيِ، ويقع في طَرَف المسعى الجنوبيِّ (3) .

3- المروة لغةً: حجارةٌ بِيضٌ برَّاقةٌ، والجمعُ مَرْوٌ (4) .

المروة اصطلاحًا: جبلٌ بمكَّة، وإليه انتهاءُ السَّعيِ، وهو في أصلِ جبل قُعَيْقِعان، ويقعُ في طَرَفِ المسعى الشَّمالي (5) .

السَّعْيُ بين الصَّفا والمروة اصطلاحًا: هو قَطْعُ المسافةِ الكائنةِ بين الصَّفا والمروةِ، سبعَ مرَّاتٍ في نُسُكِ حجٍّ أو عُمْرةٍ (6) .


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
HêĽм √ 3.1 BY: ! ωαнαм ! © 2010
new notificatio by 9adq_ala7sas

تنويه : المشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس بالضرورة تمثل رأي أدارة الموقع

Security team

This Forum used Arshfny Mod by islam servant